
الشاعر محمود الديداموني مسكون بروح الشعر .. في ديوانه "كان في عيني حلم " الصادر عن سلسلة " إشراقات جديدة " التي تصدرها الهيئة العامة للكتاب .. يطلق صرخة أمل يجسدها في قصيدته المخضبة بالرومانسية .. المسكونة بوجع الوطن .. يأتي حلمه متفجرا .. يحلم بالفجر الآتي والقادم .. يحلم بالخلاص من هذا الوجع المتسربل في الوطن .. المتشعب في دروبه .. القابع في أرواحنا الباحثة عن الخلاص .
يرفض الواقع .. ومنه ينطلق لروح الحلم ..حلم الخلاص .. الخروج من عتمة المكان إلى براح الفجر بنوره الطارح ملامح الأمل.
ينسج قصيدته بمهارة كما ينسج سرده .. فهو متعدد المواهب .. يكتب الرواية بجوار القصيدة ..
المـتأمل عنوان الديوان " كان في عيني حلم " يجد فعل الماضي " كان " مجسدا هذا الحلم .. وكأن الشاعر يؤكد لنا من الطلة الأولى لهذا العنوان الذي تحمله قصيدة تتدثر بكثير من اللا آت .. في مواجهة الموت .. في محاولة للتشبث بالحياة ..تلك المواجهة الحلم .. كما يقول في القصيدة : " فاسكبي الأنوار في/ عينيَّ فجرا/ أحمل الصبح حكايا/ أبتسم/ فابسمي " .
وتظهر فلسفته المعجونه بوهج الصوفية وهو يرسم لنا صورة عذبة في قصيدة "يأتي الخريف مباغتا" ،وهو يقول : " أنا لست أبحث عن خيوط / الفجر تشرق في حياة/فوضوية/أنا لست أبحث عن رياضٍ/سندسية/ليست قضية/ماذا أريد من الحياة وما/تريد اليوم حتى نفترق/أنا للحياة مع الحياة بلا حياة/لكنني بالحب تسكنني الحياة " .
تلك اللمحة الصوفية المتوهجة .. الباحثة عن الأمل ، الذائبة في وعي الوعي ، تجسد الحلم الديداموني الباحثة عن السكينة والحياة المخضبة بالحب .
وتأتي المواجهة ، مواجهة هذا الحلم الرائق ॥ تواجهه برقة ॥ يذوب في عالمها ॥ يهطل مطرا عذباً .. كما تجسده قصيدة " ترانيم البوح " ، وهو يرسم صورة غاية في الجمال مخاطبا محبوبته- أينا كانت – فيقول : " يا أنسية عمري/ السحب تهاجم/ وجه الشمس برغم فسائلها/ الصيفية/ إذ لا تملك غير عذوبتها/ غير سلاح الرقة/ تشهره في وجه السحب القادمةإليها/ من رحم عواصف شتوية/ فتذوَّبها مطرا " ।
إن الشاعر الغارق في نهر الرومانسية العذب .. يرسم لنا هذه الصورة المبدعة بعين الفنان الغارق في الحلم .
وصورة مماثلة يرسمها الشاعر في قصيدة " الحلم والغربة " يقول : " تئوبين فجراً/جديداً جيداً/ يعلن للراحلين الحداد / ويرسل للحلم بعض السحاب/ فتمطر فيه السماء الجمال" .
أما قصيدة " هدأة البحر مستحيلة " فهي تجسد أمل الخلاص ॥ تستشرف الواقع ومنه تنطلق للمستقبل تحث للخروج من خلف التجمد، الاستسلام لمواجهة الواقع .. فالعنوان دال ومعبر .. فمن الصعب أن نقف أمام الموج العاتي للبحر .. وهدوء البحر يأتي خلفه موج عارم من الصعب التصدي له والوقوف أمامه .. فيرسم لنا تلك الصورة الدفاقة وهو يقول : " وكأنك تستنطق آهاتي/ يامن تقبع خلف ستائرك الثلجية/أخرج هيا كالطلقة/ أنقد من فضلك أمة/وتوحد/ وأعلم وحدك لا / غيرك يملك نزع فتيل الفرقة/ الآن .. الآن .. فلا تصمت / فالبحر يحاصره قيده/قد أصبح لا يملك موجه/ لايملك سره/ يجبر كي يوغل نحو الأرض/ فيسحب صبوتها/ يغزو زهر بكارتها/ يبتلع التاريخ النابت فيها/ يبتلع كنوزا وعصوراً/ تصبح في طي النسيان/ أخرج وتقدم / هل تدرك ما أحلم به؟/ لو تدرك .. لخرجت "
أما قصيدة " أغنية الخلد " فتجسد مشاعر انصهار الذات في الذات .. تبحر في لحظة توحد وتموسق بين الماضي والحاضر والآتي .. تتمسك بتلاتيب الإنسان/ الذات ، تقسم بالخروج من هذا الوهن/ الإستكانة ..إلى واقع مغاير ، الحلم ، حلم الخلاص ، يقول الشاعر : " أقسمت../ بأن لا أسقط من ذاتي ../ ذاتي / أقسمت بأن لا أسقط ../ أمسي / واللحظة .. والآتي/ سأواري سوءاتي/ وأضمد ../ جرح الشمس .../ لتسطع في بيداء .. حياتي " .
وفي قصيدة " في عتمة الليل " يتأجج الحلم معلنا بأن الليل مجرد نبات آفل .. والشمس قادمة بنورها لامحالة ..فيقول : " فتلفح وجه الحياة الودود / ويشتد في الأفق صوت البوار/ فما الليل إلا نبات الأفولِ/ وشمساً تحوَّطها الإنهيار " .
إنه شاعر يداعب الحرف بمهارة ،وينسج عالمه الشعري برومانسيته العذبة التي لا تنفصل عن الواقع ، ومنه تنطلق ، تحلم بمستقبل أفضل .. تحثنا عن الخروج من العتمة إلى النور ، لذا جاءت مفردات الفجر والنهار والنور متوغلة في عمق الصورة الشعرية : " ونقبل شطآن النهر نصادق فجره " ، " عن أوردة الفجر/ الشمس " ، " تعودين فجرا/ يغازل في القلب حلم الصباح " ، " بكل الشموس/ تعرين قهر الليال " ، " ينشدن صبحا جريئا/ يعانق فجرا طهورا " ، " جدي سابق فرسان العالم / حوَّل ظلمات الكون إلى فجر " .. الخ
إنه الشاعر الحالم بصبح ندي .. يرسم لنا ملامح الأمل في الخلاص في ديوانه " (كان) في عينيي حلم " فتحول حلمه إلى حقيقة .. وصار الحلم واقعا ملموسا نعيشه .. فالشاعر الخارج من رحم الواقع يستشرف المستقبل بمهارة .. لذلك نشعر بطزاجة الكثير من القصائد ونحن نطالع الديوان .
مجرد طلة على ديوان زاخر بالشعر .. والصورة المرسومة بفنية ومهارة .