ثورة يناير ومعضلة
التغيير
الأستاذ
الدكتور/أحمد يوسف علي
ظل حلم التغيير يراود المصريين منذ فجر
دولتهم حتى الآن ولكن اللافت للنظر أن المصريين عندما انتقلوا من حقبة العصور
الوسطى إلى مشارف الدولة الحديثة بإعلان محمد على الذي اختاره وجهاء القوم واليا
رغم أنف الأستانة ليشرع في تأسيس أركان الدولة الحديثة بالتعليم والتشريع
والاقتصاد والجيش القوي. لم يستطع المصريون إنجاز قضايا التغيير وأعني قضايا
الحريات ونظام الدولة وشكل العلاقة مع الحضارة الغربية، مع أنهم كانوا من أسبق
الشعوب في العالم القديم تواصلا مع مصادر العلم والمعرفة والتنوير ومحاربة التخلف
والجهل والفقر والمرض. ولاشك أن مصر تعرضت لأطماع عديدة بحكم الموقع والتاريخ
والدور، وبحكم أنها كانت أرضا رخوة أغرت الدول الاستعمارية باحتلالها أو بمحاولة
احتلالها كما صنعت حملة فريزر وكما صنع نابليون بونابرت ومن قبلهما بعدة قرون سليم
الفاتح الذي أسقط دولة المماليك إلى أن استطاعت بريطانيا فرض سلطانها على مصر لمدة
تجاوزت سبعة عقود من أواخر القرن التاسع عشر1882 إلى1956 بعد توقيع اتفاقية الجلاء
ورحيل آخر جندي بريطاني عن مصر.
استطاع المصريون أن يتخلصوا من الاستعمار
بأشكاله المادية المعروفة ولكنهم تعثروا على مدار التاريخ الحديث والمعاصر في
مسألة إنجاز القضايا الفكرية الكبرى، فلم يحسموا حسما قاطعا لا ردة عنه شكل الدولة هل هي دولة مدنية أو دولة دينية
وكان الإسلام هو الحاضر دائما في كل نقاش بوصفه نقطة خلاف أو استدلال أو بوصفه
موضع اتهام لدى بعض القوى ذات المرجعيات الفكرية اليسارية والليبرالية، أو بعض
القوى المناوئة للحضارة الإسلامية ومشروعها التاريخي أو المعاصر. والدليل على أن
هذه القضايا المشار إليها لم تحسم وأنها صارت قضايا كل مرحلة من مراحل تاريخنا
الحديث والمعاصر أن رفاعة الطهطاوي في كتبه تحدث عن الحريات وعن التعليم وعن
المرأة وعن مظاهر التخلف وعن السؤال الجوهري الذي لم يفارق كل أعلام النهضة
المصرية والعربية وهو لماذا تقدمت الحضارة الغربية وتخلف الشرق، وكان هذا السؤال
ملحا في كتابات النديم في التنكيت والتبكيت وفي الأستاذ، وكان أظهر ما يكون في
السجال الفكري التاريخي بين الإمام محمد عبده والمفكر الفرنسي الشهير هانوتو
وتبلور في كتاب( الإسلام بين العلم والمدنية) من يقرأ عناوين هذا السجال، يشعر أن
الإمام ورفيقه مازالا على قيد الحياة يتحاوران فيما نتحاور فيه اليوم حول العلم
ومدنية الدولة ودور الدين فيها وشكل مؤسسات الدولة والأحزاب ودور المرأة والمواطنة
وكيف نقرأ ماضينا القريب أو البعيد وكيف نحافظ على وحدة حلقات التاريخ المصري
وتواصلها ولا نستبعد إحداها بذريعة الإيمان والكفر، وكيف تحافظ مصر على توازنها
التاريخي بين حضارة البحر المتوسط وحضارة الشرق وعلاقاتها المصيرية بالعرب.
يقول مقدم هذا الكتاب محمد الرميحي الكاتب
والمفكر البحريني المعروف:" أما صلب الموضوع فهو القديم الجديد أو الغائب
الحاضر والسابق واللاحق، أي هل يصلح المسلمون بتراثهم الذي لا يرى، كما اعتقد
الغربيون أن فصل الدين عن الدولة ضرورة للحكم، هل يستطيعون، وهم كذلك،إقامة دولة
حديثة قائمة على سيادة القانون؟ لم يكن هذا السؤال مطروحا بشكل مباشر... ولكن
البحث المعمق في قراءة الحوار وما تلاه من كتابات الشيخ محمد عبده التي يتضمنها
هذا الكتاب شرحا وتعليقا، تقول لنا النصوص بين السطور إن تلك هي المسألة، وهي
مسألة لازالت حاضرة بيننا على الرغم من أن النقاش تم قبل أكثر من قرن وعلى وجه
التحديد قرن وعقد من السنين. وعلى الرغم من كل التطورات السياسية والفكرية التي
خاضها العرب( ومنهم المصريون)بين أنفسهم أو بينهم وبين غيرهم على امتداد هذا القرن
الطويل، مازال السؤال التاريخي قائما: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟
ولم تكن ثورة يناير أو ما سبقها من ثورات
ابتكرها المصريون إلا استجابة لقانون الوجود وهو التغيير، فقد رفض المصريون
الاستبداد السياسي والتخلف الاجتماعي وانتقاص حق المواطنة في عهد الخديوي توفيق
بزعامة الثائر المصري أحمد عرابي. ومع أن هذه الجولة من الصراع انتهت بالاحتلال
البريطاني لمصر،فإن روح المقاومة لم تهدأ وطلب التغيير قد استقرت جذوره في الأرض
المصرية حتى أثمرت ثمرتها المباركة في ثورة1919 التي نتج عنها وضع أول دستور مصري
كانت أهم ملامحه الإقرار بمبدأ المواطنة وأن المصريين سواء أمام القانون وأن الشعب
مصدر السلطات، وعلى مستوى الهوية الوطنية تحققت هوية المصريين بالتواصل الفعال مع
تاريخها البعيد الفعال أعني تاريخها الفرعوني وحلقات تاريخها الإسلامي وظهرت أعمال
فنية في الموسيقى والنحت والرسم والأدب مثل أعمال مختار وسيد درويش وتوفيق الحكيم
وهيكل واكبها على المستوى الفكري والنقدي أعمال كرست الاتجاه الفردي واكتشاف قدرات
الفرد على الإبداع وأهمها الخيال وحدث التمرد الفعال على مباديء الإحياء
والإحيائيين وكان شوقي وحافظ بما يمثلان من أساليب كتابة الشعر هدفين لسهام ممثلي
الفكر النقدي الجديد وعلى رأسهم العقاد والمازني. وتنامى هذا الإحساس بالتغيير على
كل الأصعدة الأدبية والنقدية والفنية حتى راج وازدهر أدب يعبر عن الشخصية ودورها
في التاريخ والنظام الاجتماعي وتطلعاتها خارج حدود الحارة والشارع والوطن فكان فن
الرواية الذي أينع على يد ثلة سبقوا نجيب محفوظ ومهدوا التربة الفكرية والأدبية
وقارن إن شئت بين بداية هيكل في زينب وكيف كان خجولا ومترددا في أن يكتب اسمه على
روايته وكيف صور حياة زينب وحامد والقيم المحافظة التي حكمت العلاقة بينهما وبين
ما صنعه محمد عبد الحليم عبدالله في شجرة اللبلاب وبعد الغروب والأسوار العالية
وما قدمه بعد ذلك نجيب محفوظ الذي أفاد من التطور التاريخي للمجتمع المصري وتطور
كتابة فن الرواية لاحظناه في رواياته زقاق المدق والقاهرة الجديدة والثلاثية وما
تلاه من هرم روائي يمثل تطور الأسلوب الروائي. كما انتهى مسار الشعر إلى تطور لم
يكن على البال فقد انتقل كتابة الشعر من الشكل الموروث إلى شكل لم تألفه الأذن
العربية من قبل أعني شعر التفعيلة أو الشعر الحر الذي خرج بصاحبه من الحس الغنائي
الفردي إلى تعدد الأصوات داخل القصيدة وارتباطها بالموضوعات الاجتماعية والتاريخية
هيأت السبيل لكتابة المسرح الشعري كما رأيناه عند الخميسي والشرقاوي وعبد الصبور
والسؤال الآن هو هل التغيير فعل مرهون
بالحدث الاستثنائي في حياة الشعوب وهو الثورة؟ لاشك أن الثورة كما نعرفها تغيير
جذري للبنية الاجتماعية والفكرية يمتد زمنا طويلا ولا يحدث في يوم وليلة ومن هذه
البنى التي تتغير بنية الفكر التي يستقر في قلبها الفن والأدب. ومن سمات الفكر أنه
يحتاج وقتا طويلا للتغيير ولا يتجاوب تجاوبا آليا لما يحدث على أرض الواقع. إن
الفكر قد يسبق الواقع وقد يتخلف عنه ولكن وظيفة الفكر هي استشراف المستقبل
والتأسيس له بنقد الواقع وكشف عوراته ومن هنا فإن فعل التغيير فعل مستمر ينهض به
رواد الفكر كما تنهض به المؤسسات الثقافية، ولكن المفكر لا ينهض بمهمته إلا
انطلاقا من موقفه المنحاز للطبقة التي يعبر عنها ولقراءاته وتاريخه وهذا ما يجعلنا
نميز بين مفكر وآخر ورؤية ورؤية وعطاء وعطاء
ونقدم من هؤلاء المفكرين مفكرا آمن بالتغيير
وتوسل إليه بوسائل ثقافية هو المفكر زكي مبارك الذي عاش بين تاريخين هما مولده
ووفاته(1891-1952م)هذه الفترة هي التي شهدت أيضا مولد العقاد وطه حسين والمازني
وسلامة موسى وغيرهم من كبار العقول في تاريخ مصر كما شهدت كل مشاهد التغيير للخروج
من أسر العصور الوسطى ودولة الخلافة والبحث عن هوية مصر والمصريين والتواصل مع
الحضارات الأخرى وبزوغ دور الطبقة الوسطى وتأسيس الجامعة المصرية وإنشاء البرلمان
وإقرار الدستور. كل هذه المعطيات الثقافية والاجتماعية والسياسية هي التي تعامل
معها كل مفكري مصر في هذه الفترة ومنهم زكي مبارك ولكن أسلوب التعامل لم يكن واحدا
وهذا ما حدا بنا للوقوف عند هذا المفكر
أما تكوينه العلمي والفكري فقد تبلور في
إنجازاته العلمية التي بدأت عام1924م بحصوله على درجة الدكتوراه الأولى من الجامعة
المصرية بعنوان:"الأخلاق عند الغزالي" التي لم يكتف بها ورأى أنها وحدها
ليست قناة صالحة للتحاور مع الآخر الذي يمتاز بقوته العلمية وقوته العسكرية،
فاختار أن يسافر إلى فرنسا وما ترمز إليه لينال من إحدى جامعاتها العريقة درجة
الدكتوراه الثانية تحت عنوان:"النثر الفني في القرن الرابع الهجري"
عام1931م وعاد إلى مصر ليمارس مهمة المثقف الحالم بالتغيير فلم يقف بالحلم عند
حدوده بل تخطاه لينقد الرموز المسيطرة على الساحة الثقافية والسياسية وسماها
الأصنام. هذه الأصنام هي التي جلبت عليه كل المتاعب التي لازمته طوال حياته
وأكسبته القدرة الهائلة على المقاومة والشموخ بغض النظر عن كثرة المتربصين به.
وهذا في تقديري ما دفعه إلى البحث عن طاقة روحية فائقة لدى كبار المتصوفة في
التراث الإسلامي فتقدم للجامعة المصرية من جديد لينال درجة الدكتوراه الثالثة في التصوف الإسلامي عام 1937م
ولو تأملنا قليلا في هذه العناوين التي قدمها
زكي مبارك، نجد أنه أولا التفت إلى الوراء ليقرأ فيه الحاضر الذي كان يعاني منه
ولم يقو على فهمه. هذا الماضي كان بالتأكيد أكثر ثراء وتنوعا من حاضره. ثانيا أنه
على كثرة هذه الموضوعات: الغزالي، النثر الفني، التصوف، لم يخرج من القرن الرابع
الهجري ولم يبعد عنه. وتفسيره أن هذا القرن هو قرن قطف ثمار الحضارة العربية
الإسلامية كما تحدث آدم ميتز في كتابه عن هذه الحضارة في القرن الرابع وكما أقر
زكي مبارك نفسه في كتابه النثر الفني وفي هذا القرن أيضا تراجعت فكرة العروبة
تراجعا كبيرا وراحت القوميات المختلفة تنفصل وتؤسس لها دولة وإن لم تفارق الفكرة
الإسلامية. وثالثا أن زكي مبارك توقف كثيرا عند مسألة الأخلاق وارتباطها بالتصوف
وهذا ما دفعه لاكتشاف تجربة روحية ثرة عند أحد أقطاب الشعر الشيعي في القرن الرابع
الهجري هو الشريف المرتضى الأخ الأكبر للشريف الرضي نقيب الأشراف من البيت العلوي
ولكن القدر لم يمهل زكي مبارك لإنجاز هذا الموضوع- "عبقرية الشريف
المرتضى"- الذي تقدم لتسجيله بالجامعة المصرية للدكتوراه الرابعة عام 1949م
وأما مواقفه النقدية، فهي أوسع من أن تحصرها
هذه المساحة الضيقة. ونكتفي منها بما يدل على ما نريد وهو أن فعل التغيير ليس صدى
للثورات ولا استجابة مؤقتة لدعوات تنشأ لسبب ما ولكنه فعل عميق ممتد تمارسه
المؤسسات كما يمارسه الأفراد وينبغي أن يستمر ولا يتوقف. فقد كان زكي مبارك معتقدا
أنه وحده يمثل مؤسسة كبرى تبدأ من المكتبة التي يتوحد فيها مع الكتاب ويقول
عنها:إذا أردت أن أتنفس، أذهب للمكتبة، وتصب عبر العقل الناقد في نوافذ المجتمع
بكل أنواعها. يقول مستشرفا المستقبل عن مصر وضرورة تحطيم الأصنام:
"أستطيع
أن أؤكد أن كثيرا من الأصنام التي تعبد في مصر والشرق ستحطم عما قريب. وسينشأ في
مصر والشرق جيل جديد يبني أحكامه وقوانينه على أساس التجارب والمشاهدات. وستهدم
صروح العظمة التي تبنى على أساس التوقر والتحفظ وخلق أسباب التبجيل وفرض الاحترام
بالأساليب الممجوجة التي تخلى عنها الغرب وداسها بقدميه يوم رغب في شرف الحرية
والإخاء والمساواة ويوم فضل الحقيقة المرة على الباطل المعسول"رسالة الأديب
ص36
عبادة الأصنام ليست عبادة الأشخاص فقط
ولكنها وهذا هوالأخطر عبادة الأفكار والتسليم بصحتها والتعصب لها والموت في سبيلها
وكأنه استشهاد في سبيل الوطن أوالشرف أو الدين. هذه العبادة هي واحدة من الأوهام
الخمسة المضللة التي حذر منها فرنسيس بيكون ورأى أنها تحول بين العقل ورؤية الحق
وهي أول ما يحاربه التغيير الذي يتصدى له الثبات والسكون. وفرق واسع بين عبادة
الأصنام والاحتكام إلى التجارب والمشاهدات والخروج من أسر الذاتية المغلقة
المتوسلة بأسباب التبجيل وفرض الاحترام بالأساليب الممجوجة.
هذه الرؤية الفكرية هي الأساس الذي بنى عليه
زكي مبارك رؤيته الجمالية لوظيفة الأدب بوصفه رسالة جوهرها" خلق ذوق
الحياة". إذ كيف تتغير الحياة وتتخلص الروح من أدران الوهم والاتباع الأعمى
وعبادة الأوهام بدون أن يكون هناك أفق جديد ومتجدد يجعل الحياة جميلة ومحتملة ولن
يحدث هذا أبدا إلا عن طريق الفنون والآداب يقول زكي مبارك:
"إن
رسالة الأديب هي خلق ذوق الحياة. فمن الواجب أن تتجه مراميه إلى ذلك الخلق في أي
صورة، وعلى أي شكل. إن الأديب الحق هو الذي يستطيع بقلمه أن ينقلك من ضلال إلى هدى
أومن هدى إلى ضلال. والمهم عندي أن يقدر الأديب على خلق الفتن الروحية والذوقية
والعقلية بحيث تخرج من صحبته بمحصول جديد من القلق أو الاطمئنان"رسالة الأديب
ص40
هذه الفتنة الروحية والذوقية والعقلية هي
الدهشة بعينها عند الفيلسوف. هذه الدهشة هي أساس كل تساؤل ومصدر كل معرفة ومبعث كل
شك يفضي إلى معرفة صحيحة سليمة وهنا تلتقي العاطفة بالعقل ولا تعارض بينهما.
فالعقل يدرك الأشياء كماهي في حدود ما يحكمها من علاقات ولا يتخطاها إلى ماوراءها.
أما العاطفة فتستعين بكل عيون البصيرة في رؤية الجمال الكامن وراء ما نراه أو
نسمعه أو نشاهده أو نتذوقه.إن تفاحة نيوتن مثل كل حبات التفاح في العالم ولكنها
اكتسبت وضعا خاصا حينما ربط صاحبها بينها وبين مشهد سقوطها فكان ما كان من نظرية
الجاذبية الأرضية. هذه التفاحة بالتأكيد تختلف عن تفاحة بيكاسو التي اتخذ من لونها
الأحمر رمزا للأرض المغتصبة والمحاصرة في فلسطين هذه الأرض التي لم يتوقف أنينها
وشكواها وحركت العواطف الذكية إزاء ما ترتكبه الصهيونية العالمية من جرائم على أرض
فلسطين. هذا ما أعتقد أنه ذوق الحياة والفتنة الروحية والعقلية كما قصدها زكي
مبارك وهذا ما دعاه إلى تأكيد بقاء الأثر الأدبي على مر السنين وكأنه نتاج اللحظة
الحاضرة في قوله:
"إن
كلمة تضم إلى كلمة في ذكاء ولوذعية أشرف وأنفع من كنوز تضاف إلى كنوز. إن وجود
الله بالفكر والروح على من يصطفيهم من عباده لهو أطيب الهبات، وأكرم الأرزاق. أقسم
الله بالقلم ولم يقسم بالمال. لقد خرج المتنبي هاربا من مصر في ليلة عيد. فكم ألوف
من الدنانير أنفقت مصر في تعليم أبنائها حكمة المتنبي؟" رسالة الأديب ص56
هذا
الوعي النقدي المدهش هو الذي مكن زكي مبارك من بناء رؤية فريدة لوطنه مصر على كثرة
ما كتب العلماء والكتاب والرحالة والباحثون والمستشرقون عن مصر منذ القدم حتى
الآن. لم يكتب عن مصر الوطن الفردوسي الذي تسكنه الملائكة أو يسكنه بشر ارفع من
البشر فيقع في فخ الإقصاء والتمييز ولم يكتب عنها الوطن الذي جعله الله مهدا
لرسالاته فكان أبناؤه هداة مهديين ولا عن الوطن ذي الموقع الفريد الذي جعل سكانه
يستغنون به عما سواه ولكنه كتب عن مصر وطن الإنسان الباحث عن العلم كما يبحث عن
الدين الشاك في العقيدة وصولا إلى العقيدة الصحيحة. الوطن الذي أصابه الوهن وتعاقب
عليه كثير من الأمم والحضارات والثقافات ولكنه أبدا لم يذب في غيره ولم يستكن لذل
وقاوم وهو في أشد الضعف وانتصر وهو في حال من الوهن وظل باقيا على مدار التاريخ لا
تخطئه العين ولايتجاهله فكر وتهفو إليه كل نفوس الطامعين وطن طوق كل بلاد الدنيا
بأفضاله العقلية والروحية.
ولا أجد خيرا من كلمات هذا المبارك في توصيف
الوطن مصر مثالا لرؤية نقدية ثاقبة هى أساس كل تغيير. يقول زكي مبارك في العدد 473
لعام 1942 من مجلة الرسالة بعنوان:" الوفاء للوطن الغالي":
في
كل أرض يكون للشجر والزهر والنبات يقظة وموسم خمود إلا مصر، فاليقظة فيها دائمة في
جميع الأحايين. وفي كل وطن يوجد الماء في مكان وينعدم في مكانات إلا مصر،إلا مصر
فالماء موجود في كل مكان. وفي كل بلد تجاهد الأرض في الزراعة موسما ثم تستريح
موسمين أو مواسم إلا مصر، فأرضها تصلح للإنبات مرتين في العام الواحد أو مرات. كان
وطنك محور التوازن الدولي قبل أن يعرف بنو آدم ماهية التوازن الدولي، وكان وطنك
أول وطن تنبه إلى أن الله واحد بلاشريك وفي سبيل هذا المعنى الدقيق جاهد إخناتون
الشهيد
وكان وطنك يابني أول وطن حارب السماء عن علم
أو عن جهل. وهل من القليل أن يكون الطغيان المصري أخطر طغيان حاربه القرآن؟! وطنك
مذكور بمحاسنه ومساوئه في جميع البلاد، وستنسى أمم وشعوب، ولا ينسى وطنك لأنه
معترك الرشد والغي، والهدى والضلال في جميع الأجيال. وطنك هو الميزان في القضاء.
قلبك لوطنك، وهواك لوطنك. فلا تشرك به أحدا. ولا يخطر في بالك أن في الدنيا جمالا
أنضر من جماله، أو حمى أعز من حماه، وإن تناوشه الطامعون من كل جانب فسيظل وطنك
وحدك.
هل
تعرف الحكمة التي تقول: رب أكلة منعت أكلات. تلك الأكلة هي مصر، فما طمع فيها طامع
إلا قصمت ظهره. ولا دخلها غاصب إلا وبال عليه، ولو استفتيت التاريخ لأفتاك ثم
أفتاك.
كنت أشارك المنفلوطي في السخرية من قول مصطفى
كامل:" لو لم أكن مصريا لتمنيت أن أكون مصريا" واليوم أعرف أن المنفلوطي
كان من المخطئين الخاطئين، وأن كلمة مصطفى كامل أصدق من الصدق وأصوب من الصواب ،
ذلك أن مصر غنية من جميع النواحي وعظيمة من جميع الجوانب وليس فيها شبر إلا هو
مبعث حياة أو مصدر تاريخ.
وما
اقتتلت الأهواء ولا اشتجرت الآراء، ولا اعتركت القلوب، ولا انتضلت العقول بأقوى
وأعنف وأخطر مما يثور فوق الأديم الصحيح في هذه البلاد. يوم كان السلطان لأهل
الشرق كانت مصر أول أمة تقاوم طغيان الشرق. وحين كان السلطان لأهل الغرب كانت مصر
أول أمة تحارب طغيان الغرب. وهل ينسى التاريخ أن عزة مصر هى التي جعلت واليها عمرا
أول وال يخالف عن أمر الخليفة العادل عمربن الخطاب؟ وهل ينسي التاريخ أن السلطنة
العثمانية في أيام عزها المأثور عجزت عن تتريك الأمة المصرية؟
بلادنا طوقت جميع البلاد بأغلال الديون
العقلية والروحية ولن يتنفس بلد في شرق أو غرب إلا وهو مدين لمصر بديون ثقال. لا
تنسوا أن بلادكم دانت الفكر والعقل والروح ألوفا من السنين، ولاتنسوا أن أكبر مجد
يظفر به الأوربي المثقف هو أن يحل رمزا من رموز آبائكم الأولين
ثم
أذكر أن بلادنا هي التي صدت المغول الوافدين من الشرق، وهي التي صدت الصليبيين
الوافدين من الغرب. فكنا الميزان لأبناء ذلك الزمان. لن تضام مصر أبدا لأنها وطن
الرجال، ولأنها وطن غلب الدهر الخوان"
هذه
هي مصر كما انفردت برؤيتها عين زكي مبارك الثائر المتمرد المغرد وحده بعيدا المؤمن
بأن التغيير ضرورة من ضرورات الوجود. فهل أدرك أحد من الثائرين اليوم معاني مصر
وصيرورتها على مدار التاريخ؟