الثلاثاء، 21 أغسطس 2012

مدخل إلى تحليل خطاب الثورة د./ شكرى الطوانسى


مدخل إلى تحليل خطاب الثورة
د./ شكرى الطوانسى
كلية الآداب ـ جامعة الزقازيق



الثورة حدث استثنائى فى تاريخ الأمم، يعلن فاعلوه قطيعة ـ يريدونها تامة ومطلقة ـ مع ما هو سائد وقائم من أوضاع وممارسات وقيم .. وغيرها مما لم يعد احتماله ممكناً، ولا تغييره متاحاً فى النظام القائم؛ ومن ثم فهى تنطلق فى شكل «غضبة» عامة، فورة، قفزة، «قومة» من غير تطور أو تدرج، وباتجاه ما هو غير مسبوق ولا متوقع، حتى من قبل فاعليها، أو أولئك الذين يعون تراكماتها وأسبابها. وهى لذلك تقع خارج التنظير، وبغير حاجة إلى وعى نخبوى، متجاوزة قواعد «اللعبة السياسية»، وتقديرات المصلحة (من جانب فرد أو جماعة أو حزب..) التى ينظر إليها البعض على أنها ".. الحاكم الأعلى فى الأمور السياسية، وينبغى أن تكون كذلك"(1)، ومع ذلك فالثورة فعل سياسى اجتماعى، تحرك أو خروج جماعى باتجاه فضاء أو مجال أو ميدان أعم وأرحب تنداح فيه الفواصل والحدود بين المتخيل/ المرجو والواقعى، فيصبح المتخيل جزءاً من واقعيته أو تاريخيته، من خلال الإقرار بإمكانية ما كان يبدو مستحيلاً، بل تحقيقه بالفعل بمعنى ما، بنزع المهابة عن نظام عمل المحكومون أنفسهم فيما مضى على تثبيته وتقديسه وتحويله إلى معطى طبيعى شرعى، بما أوهمهم فى البداية من مساواة (اجتماعية) بينهم ـ كمحكومين بالطبع لا كحكام، ومن ضمان للأمن بالقوة والتسلط، مما رسخ لدى البسطاء أو الفقراء منهم «شرعية الاستبداد»(2) ؛ هذه المهابة، وما تبعها من التسليم بسلطة متعالية مقدسة لا سبيل إلى مراجعتها أو تغييرها، انقلبت ـ بالفعل الثورى ـ مهانة وتحقيراً ووضاعة أمام ما حازه الثوريون ـ أولئك البسطاء أو الفقراء أو الجموع المضطهدة ـ من جلال وعظمة ورفعة انتقلت إليهم من الإله أو الطبيعة، فكانت إرادة «عامة» خارقة فوق ـ إنسانية، لا تعترف مطلقاً ـ لا سيما زمن استمرار الثورة ـ بأية إرادة أو سلطة أعلى منها، متماهية مع إرادة السماء، حيث صوت الشعب ـ كما يقول «روسو» فى حديثه عن الإرادة العامة ـ هو فى الحقيقة صوت الله(3) . وفى إطار هذه الإرادة العامة يكون الفرد ـ أى فرد ـ آمراً، حاكماً، سيداً، مشرعاً.. إلخ، وتكون المبادرة الفردية قوى فاعلة، ولا يعود الفعل الإنسانى محدوداً مقيداً، بل يصبح صانعاً لتاريخ جديد غير مسبوق أو غير دورى، تكتسب فيه الضرورة أو الحتمية التاريخية معنى جديداً، فلم يعد بالإمكان فهمها بمعزل عن الإرادة الفردية.
ليست الثورة مجرد تغيير أو تحرر، ولكنها إحداث لقطيعة أو انقطاع على المسار التاريخى للذات (فردية وجماعية)، بحيث تغدو بداية لتاريخ جديد، ولحكاية جديدة تتجه بها صوب زمنية خاصة تتحرر فيها من الماضى، من سلطة الزمن الخطى التعاقبى وسطوته، فيتعرض ـ بالتالى ـ وجودها وحضورها وهويتها (الثابتة والمستقرة) للخلخلة والتصدع، حيث تخترق هذا الوجود لحظة (زمنية) منقطعة عن ماضى هذه الذات، ولا تسير باتجاه مصير/ مستقبل محتوم، عبر مسار معلوم (حددته سلطة متألهة). وهكذا تؤدى الثورة إلى ".. إقحام اللا تناهى «داخل» الكائن [أو الذات].."(4) لا تناه فى حريتها، وفى قدرتها على الفعل والحركة من دون قيد أو كبح أو احتجاز، وعلى التحرر من الخوف والفقر والحاجة، والخروج عن حالة الشكوى والتذمر وعدم الرضى، أو التصبر واليأس والاستسلام، والدخول ـ بالتالى ـ فى علاقة أكثر حميمية مع الآخر المثيل، تعبر عن نفسها فى التجمع بحرية، ومشاركة هذا الآخر فضاء مفتوحاً عاماً (ميداناً، ساحة.. بما فى ذلك المجال أو الشأن العام)، ذلك الفضاء أو الميدان أو المجال".. الذى كان محجوزاً على المدى الذى تعيه الذاكرة لأوالئك الذين خلوا من الهم والقلق المتعلق بضرورات الحياة والحاجات الجسدية.."(5). أى للأحرار فقط. هذا التجمع، وما يعنيه من امتلاك «العام»  وحيازته، ليس تنازلاً عن الخاص والشخصى فحسب ، ولكنه ـ فى الوقت نفسه ـ إقصاء وإزاحة وإلغاء لكل أشكال وجود ذلك الآخر المخالف والمضاد (المتمثل فى النظام القائم ومؤيديه وكل من يحميه من رموز وبنى وأدوات). وهنا تتجه الدلالة الرمزية لفعل التجمع والخروج نحو تجاوز مجرد الاحتجاج على المسافة بين الذات وهذا الآخر، إلى محو هذه المسافة من الأساس بنفى الآخر (المخالف والمضاد)، فى مقابل تماهى الذات مع «آخر» ها المثيل والشبيه، ومع كل ما يتطابق ويتسق معها؛ أو قبولها له.
تبدأ الذات ـ مع الفعل الثورى وخلال تقدمه ـ إعادة النظر إلى ذاتها ومراجعتها، لما رأت فى نفسها تفوقاً وقوة وفاعلية (سياسية) دفعتها إلى القيام بدور الحاكم أو السلطة أو السيادة، يستهويها إغراء هذه الممارسة للسلطة إلى الحد الذى يجعلها ـ أحياناً ـ حريصة على استمرار الحالة الثورية، ليستمر دورها وفاعليتها، وتحافظ على ما اكتسبته من وجود جديد مستمد منهما. إنها سلطة من نوع خاص لا تنبع من ملكية أو حق طبيعى أو دينى، ولا من منظومة قيم وأعراف ضمن نظام ما، ولكنها تصدر عن الذات من خلال انعكاس الذات على نفسها فى علاقاتها بذاتها، وبالآخرين، وبالأحداث والوقائع التى تحياها؛ واعتبار نفسها ذاتاً فاعلة قادرة متفوقة، ذاتاً متمتعة بوجودها وإرادتها وسيادتها. إنها سلطة ذات اغتنت بالثورة، فامتلكت طريقة جديدة فى تأمل ذاتها واكتشافها والتعرف عليها، ".. أسلوبية جديدة للوجود"(6)، تبدو خلالها، على نحو ما تريده لنفسها، حرة متحكمة فى نفسها (وفى عالمها)، محققة لكينونتها وهويتها، باستعادة ما هو أصيل وجوهرى فيها، كانت تعتقد أنه فارقها (للأبد)، فتحولت إلى ذات أخرى تتنكر للأولى ولا تشبهها؛ وباستيعاب ما لم تكن تعرفه فى نفسها، ولا عن نفسها، من ممكنات وتنوعات؛ وبتنحية ما ارتبط بها من ممارسات وطوابع ومقولات، تبرئة لشرفها وكرامتها وتاريخها. وهكذا ترتد الذات إلى ذاتها، مما يتيح لها إقامة علاقات جديدة معها، وإعادة تكوينها وصياغة هويتها (الذاتية، الوطنية).
يتحقق الشكل الجديد لوجود الذات خلال عمليات متعددة ومتنوعة، تصاحبها ـ أحياناً ـ مظاهر مختلفة للعنف، عندما يتهددها آخر «مضاد» لثورتها وحريتها، يرى فى مجرد خروجها وتجمعها انتهاكاً لهيمنته، وزعزعة لما هو قائم ومستقر. هذا الآخر ليس أجنبياً ولا غريباً عن الذات، ولكنه بسبب من ممارساته، يُواجه من قبل الذات بالرغبة فى العقاب والانتقام، فى محاولة منها للقطيعة معه (ومع ممارساته) ومحوه وتصفيته (أخلاقياً ونفسياً)، دون أن يغيب عن الذات القصد إلى الترهيب والتخويف من احتمال عودة هذا الآخر أو شبيهه. إن الذات باتخاذها هذا الموقف من الآخر لا تمارس فقط حقها فى الرد الطبيعى على الشر/ الجرم، ولكنها تؤكد أنها أصبحت ذات سيادة، تتموقع داخل مستوى المسئولية الأخلاقية. وهو ما يجعلها لا تقبل «اختلافاً» حتى مع ذلك الآخر «المختلف» ، الذى يشبهها دون أن يتطابق معها، حيث يناله هو أيضاً شئ من العنف، باتهامه بنقص فى المعرفة والفهم. وإن كان الجهل بما ينبغى عمله وقوله، تماماً كاقتراف الذنب رغماً عن النفس، قد يدعو الذات ـ وربما يلزمها فى ظل ما تحقق لها من وعى بالمسئولية والسيادة ـ إلى الصفح والعفو والتسامح مع أفعال الغير (مما لا يعد جريمة أو جرماً عظيماً)، فلا حضور حقيقى للآخر (بالنسبة للذات)، ومن ثم لا تأكيد للهوية الذاتية التى تتحدد بالاختلاف عنه (أى عن الآخر)؛ ولا معنى للحرية ـ ولا معنى للحياة ولا استمرار لها ـ من غير إنهاء للدورة الجهنمية : عقاب ـ انتقام، وعدم اختزال المرء فيما ارتكبه من جرم أو جناية ونقض لأبدية الانتساب أو الارتباط بين الفاعل وجرمه، إذ ".. يستطيع الناس البقاء كفاعلين أحرار، فقط عن طريق فكهم الارتباط مع ما فعلوه من قبل؛ ولأنهم على استعداد دائم لتغيير وجهات نظرهم، واتخاذ انطلاقات جديدة، يستحقون أن تعهد لهم هذه القدرة العظيمة المتمثلة فى التجديد والابتكار"(7) . إن الصفح ـ بذلك ـ هو رهان على إمكانية التغير والتحول، ".. رهان يبتغى بعث أو إحياء مرتكب الخطأ من جديد.."(8). ويرتبط بعلاقة ما بالتوبة والشعور بالذنب أمام ذات لا تكف عن التفكير فى سيادتها ومسئوليتها وقدرتها (على إنزال العقاب لو أرادت). الصفح إنما يتعلق بما تملك الذات، ويكون بمقدورها، أن تصفح عنه (أو تعاقب عليه) وهو ما يعنى أن الصفح ليس نسياناً أو محواً للماضى، أو فقدانا للذاكرة (التى ينشطها العقاب ويقويها)، ولكنه فعل من يتذكر الماضى، ويعيه، ويفهمه؛ من يفهم الآخر بوصفه كائناً إنسانياً تاريخياً له سيرورته العقلية والنفسية، والذى لا يبعد أن يكون ضحية لصور من العماء والخداع، تلك التى قد لا تنجو منها الذات نفسها، لا ننجو منها جميعاً، والتى ".. يمكن أن تقود إلى التعامى عن الشر الذى نرتكبه، وإلى اجتراح آليات التبرير الذاتى التى تبرر لنا قتل الغير، وتظهره لنا كما لو كان إحقاقاً للحق أو معاملة بالمثل .."(9). وهنا لا ينفصل الحكم على الآخر وأفعاله ـ يفهم سياقاتها النفسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية ـ عن الحكم على الذات التى هى بدورها تحتاج بلا شك ـ فى وقت ما ـ إلى الصفح. وهذا ما لا يجعل من الصفح شأنا سياسياً وقانونياً بالمعنى المحدد (باستثناء ما يسمى بـ «العفو العام» أو ما شابه). إن الصفح شكل تختاره الذات للعلاقة مع الآخر، مجانياً أو مشروطاً بمعنى ما، تتجاوز فيه عن أخطاء الغير، وتتخلى عن الانتقام والعقاب، من أجل مقاومة الشر والعنف وعدم الفهم، وإن ظل هناك ـ بالنسبة للذات ـ «ما لا يقبل الصفح»، وهو ما لا يمكن معاقبته (أى بعقوبة مناسبة). أى ".. لن يكون للصفح معنى، حيث تصبح جريمة .. فى عداد «ما لا يقبل التكفير عنه»، و «ما لا يغتفر»، بعيداً عن التناسب مع أى مقياس إنسانى.."(10).
*
تتجلى تجربة الذات فى الثورة ـ ومعها ـ من خلال ما تنتجه من خطاب أو خطابات لا تكف فيها عن ممارسة الوعى بذاتها وبالآخرين. إنها خطابات ليست بريئة ولا مسالمة تماماً، لا تقدم واقعاً موضوعياً أو تاريخا (جديداً)، وليس هذا هو ما يمنحها بعدها السياسى، وإنما هى خطابات تسيطر عليها أيديولوجيا الذات المنتجة، تتحكم فى تشكيل صورة الذات والآخر والواقع والحقيقة، وإنتاج المعرفة بها جميعاً وامتلاكها، مما يجعل من الخطاب مظهراً للسلطة والتحكم والتملك والسيادة ـ تلك التى تتطلع إليها الذات فى ثورتها، أو ما تنتهى إليه أو ما تندفع نحوه. هذا الخطاب الثورى (السلطوى) يمارس عنفاً، حكماً، تقييماً، توجيهاً.. يبدو فى كثير من الأحيان متخفياً وراء إدعاءات بالمساواة، المواطنة، الصفح والعفو والتسامح.. إلخ.
هوامش مدخل إلى تحليل خطاب الثورة
1-
حنة أرندت، فى الثورة. ترجمة: عطا عبدالوهاب. (المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1؛ 2008م)، ص. 29.
2-
فى كثير من الحالات تنبع شرعية الاستبداد وبقاؤه من توفير الظروف الاجتماعية المتساوية الناس، وغالباً ما تكون مساواة فى الفقر أو درجة أعلى قليلاً من الفقر، فالطغيان كثيراً ما يخاطب الناس أو الحس العام بالمساواة، والطاغية لا يكف يعلن عن أنه يحكم باسم الفقراء (أو محدودى الدخل ـ فى الاستعمال المعاصر). إن الطغاة ـ لا سيما فى العصور القديمة ـ يصلون إلى الحكم بدعم من بسطاء الناس أو من الفقراء. أو بعبارة أرسطو: نتيجة قدرتهم على تعبئة أو حشد الفقراء ضد الأغنياء أو النبلاء.
راجع فيما سبق:
-عزمى بشارة، فى الثورة والقابلية للثورة. (المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2011م)؛ ص. 5 وما بعدها.
3-
حول مفهوم الإرادة العامة فى الفكر السياسى، ومقارنة ما ورد لدى «روسو» من تعريف لها، وأنواعها، وكيفية تكونها، وصفاتها، وإشكاليتها؛ مقارنة ذلك بما جاء فى كتابات مفكرى الإسلام ـ راجع فى ذلك:
-فضل الله إسماعيل، «مشكلات المصطلح فى الفكر السياسى ـ مصطلح الإرادة العامة نموذجاً، » ضمن كتاب: قضايا العلوم الإنسانية ـ إشكالية المصطلح. إشراف: يوسف زيدان. (الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1996م)، ص. 187 ومابعدها، وبخاصة ص ص. 196- 199.
4-
عبدالسلام بنعبد العالى، ميتولوجيا الواقع. (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1؛ 1999)، ص. 36.
5-
حنة أرندت، فى الثورة، ص. 66.
6-
ميشيل فوكو، تاريخ الجنسانية ـ 3: الانشغال بالذات. ترجمة: محمد هشام (أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2004م)، ص. 73.
7-
حنة أرندت، « استحالة الرجوع إلى الوراء، والصفح كأفق مفتوح،» ضمن كتاب: المصالحة والتسامح وسياسات الذاكرة. ترجة: حسن العمرانى. (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1؛ 2005)، ص. 58.
8-
إدغار موران، «الصفح مقاومة لبشاعة العالم،» ضمن كتاب: المصالحة والتسامح وسياسات الذاكرة. ص. 44.
9-
إدغار موران، «الصفح مقاومة لبشاعة العالم،» ص. 42.
10-
جاك دريدا، «الصفح فى مسيرة قرن،» ضمن كتاب: المصالحة والتسامح وسياسات الذاكرة. ص. 17. وتؤكد «حنة أرندت» أن الناس ـ فى مجال الشئون الإنسانية ـ غير قادرين على الصفح عما لا يستطيعون معاقبته، عاجزين عن تنزيل العقاب على ما ينكشف أنه لا يقبل الصفح («استحالة الرجوع إلى الوراء..،» ص. 59)، وانظر تعليق «إدغار موران» على مقولة «دريدا» بأنه ليس بوسعنا الصفح إلا على ما يمتنع عن الصفح («الصفح مقاومة لبشاعة العالم،» ص ص. 49، 50).

ليست هناك تعليقات: