السبت، 8 أغسطس 2009


السيرة الشعرية لشعراء الشرقية "الرؤية والأداء " دراسة فى نماذج دالة د. محمد سيد على عبدالعال ( تربية العريش )






* الأماكن كالبشر ، لكل مكان ملامحه وسماته وروحه ، وسحره ، وجاذبيته ، وشخصيته المستقلة ، التى تحدد خصاله ، وسمات تفرده ، وعوامل الانجذاب غليه ، أو النفور منه .
وشعرنا العربي كله هو شعر المكان ، ومن يقلّب صفحات الديوان العربي يلمح هذا الحضور الطاغى للمكان فى المعمار الشعري .
وغذا كان المكان والزمان معا يمثلان الوعاء الذي يحتوي وجودا ما ، فإن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمكنه أن يمنح هذا الوجود معنىٌ ، ويبث فيه روح الحياة بما تحمله الكلمة من عمق واتساع .
فإذا صار الإنسان شاعرا فهو الأقدر على تمثيل هذه الحياة فى صورة تبعث الإحساس مهما تطاول الأمد ، وتغيّرت معالم المكان .
المكان – هنا – هو الشرقية بكل ما منحها الله – عز وجل – من عبرقية المكان ، وغذا كان لكل مكان استراتيجيته التى تسمه عن غيره ، وتصبغه بصبغة خاصة تطغى على ما سواها ، ولا يظهر سواها إلا متلبسا بها ، ومتضمنا إيّاها ، فإن الشرقية ترتبط بانها مسقط رأس النبى موسى – عليه السلام – وطريق خروجه مع قومه من مصر .
وهي خط سير العائلة المقدسة ، ومكان مبيتها ليلة واحدة ، والأهم من هذا كله أنها خط سير أحفاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى مصر بعد استشهاد الإمام الحسين .
منها دخل الإسلام مصر ، ومن خلالها – أيضا – جاء إلى مصر أحفاد نبي الإسلام الكريم ، كما كانت مسرى الأنبياء والرسل ، حيث جاءت العذراء مريم فى رحلتها إلى مصر .
ولا غرو أن تتخذ من الحصان شعارا لها ، ومن مفارقات القدر ان تتخذ من التاسع من سبتمبر عيدا قوميا لها ، لأنه اليوم الميمون الذى تفكِّر فيه ، وهو المقصود بمفارقات القدر ، بل لأنه يوم وقوف ابن مصر البطل أحمد عرابي فى مظاهرة عابدين ثائرا لمطالب الشعب المصري كله .
وأمّا مركز ديار بنى نجم / ديرب نجم ، الذى ترجع تسميته إلى نجم الدين الأيوبي الذى عسكر بجنوده فى هذه المنطقة أيّام الحروب الصليبية ، وقدّم أهل المنطقة كل العون للقائد وجنوده ، فإنه رغم كونه ثامن مراكز المحافظة من حيث المساحة ، فهو من أعظم المراكز اهتما ما بالأدب والثقافة ، وهو درّة مضيئة فى وجه مصر المشرق.
من هنا تبدا المسيرة الشعرية التى تحمل عبق هذا التاريخ الحافل بالإسلام والعروبة والوطنية .
لقد حمل طين أرضها ملامح التاريخ ، فامتزج المكان بالزمان ، فكان هذا الإنسان .
إنه الشرقاوي الأصيل الذي ارتبط باسمه الحاكايات الشعبية التى كانت تلابيب النجاة ، ومصدر القوة فى أوقات الضعف وقلعة الحماية ، ومشرق الحرية حين يستبد الطغاة ، ويغيب الفجر ، ويطول الليل .
لعلى لا أجد مدخلا أنسب من هذا التناول .. السيرة الشعرية لشعراء هذه المنطقة المباركة التى ألهمت خيال أبنائها ، وشدّت أوتار القلوب ، فعزفت ربذة الشعر على قيثارة الإلهام ، فطرب الحيُّ ، وهفت غليهم الأحياء .
يعد الشاعر المخضرم بدر بدير سيرة شعرية لهذا المكان بما يحمله من عظمة الدين ، وجلال الوطنية ، ونخوة العروبة .. كتب سيرته الشعرية فى دواوينه ، نجدها فى كل ديوان له ، بل فى كل بيت من أبيات شعره ، ولخّص المسيرة فى كلمتين شاملتين ، فيما يمكن أن نسميه بتعريف المناطق الجامعة المانعة " دموع وابتسامات " كما قال هو : " وهل هناك درجة من درجات الصدق النفسي أكبر من انفعال الحزن والفرح " . ( مقدمة ديوانه – ص6 )
وإذا كانت السيرة الذاتية للإنسان لا تتجلّى إلا بما يتصل به من شواهد ومشاهد ، فإن بدر بدير ، وهو شاعر حتى النخاع ، يعيش الشعر ، الشعر عالمه وديدنه ، موسيقاه فى أذنه ، ومعانيه حاضرة فى عقله ، وخياله ماثل فى وجدانه .
وهو لا يهيم فى كل واد كما يهيم الشعراء الذين زمّهم ربُّنا – عز وجل – ولكنه ينطلق من رؤية دينية لا يتحملها ، ولا يتكلفها ، بل اختمر فيها وجدانه وعقله ولسانه ، فنطق بها شعره ، ولذا يمكن تصنيف شعره كله بأنه يقع فيما يسمى بالشعر الإسلامي ، حتى فى وجدانياته لاتسيطر عليه امرأة غير زوجته التى ينطلق منها ، ويعود غليها حصانا عربيا جامحا ليس كل الجموح ، بل هذبته حضارة الإسلام بىدابها ، وثقفته الثقافة العربية الأصيلة المحافظة .
ولا عجب أن نجد للشعر عنده رسالة بعد ذلك : اولها دينية يتوجه بها إلى ربه مناجيا وداعيا : يا رب
( يار ب -17 بيتا من مجزوء المتقارب والقافية المقيدة : بديوانه ص9 )
لأن اتساعك فى الأفق يبدو لى الأفق أرحب
لأن أريجكّ فى الزَّهر أصبح أبهى وأطيب
وسرّك فى العقل يا رب سوذاه أزكى وأنجب
وهذا الفيض الإلهى لا يجعله يسبح سبحات الصوفية المتولهين ، او يغمض غموضهم ، او يبعد فى شطحاتهم ، أو يسرف فى رموزهم ، بل تمتلكه الثقافة العربية الأصيلة ، واعيا بادوات الترابط النصى التى تجعل القصيدة كلاّ واحدا ، ودفقة شعورية واحدة ، لا يشتتها معنى غامض ، او لفظ نافر ، أو صورة بعيدة ، تسير قصيدته سيرا منطقيا على طريقة العلل ، او المقدمات والنتائج ، ولذا فقط مهر فى استخدام معنى الشرط المنطقى الذي يوفِّر له هذه الخصيصة فيصير كالنظام يسلك ابيات القصيدة فى عقد نضيد يأخذ بالألباب والأفئدة :
لأنك فى الأذن فهى لشدو البلابل تطرب
لأنك فى الليل صار ملاذا لمن هو متعب
لأن جمالك فى العين تعشق كل مهذَّب
لأنك حولى وفيَّ فدربي أمانٌ وأقرب
لأنك فى كل صوت جميل به الروح تُعجب
ويظل هذا الشرط السلسال الذي يخاطب به الأفئدة ، فتستكين فى سلاسة وعذوبة ، ويسلم العقل قياده لهذا المنطق المطواع ، ومن خلال صورة شفافة تاتى فى سياق الشرط نفسه :
لأنك فى الفجر فالنور نهر على الكون يُسكب
وتأخذ منطقة القافية ثراءٌ دلاليا عن طريق الأفعال المضارعة والمشتقات التى تتوالى ، وتتعانق فى إثراء بعضها البعض ، فتتضفر المعانى واعيا – أيضا – بما تصنعه موسيقى المتقارب من قفز سريع ، ولكنه لا يتركه يجمح فى سرعته ، فيولد هياجا أو ثورة لا تناسب نفسه الهادئة المطمئنة الوقور المليئة بالإيمان والسكينة ، فيكبح جماح تفعيلاته المتوالية باجتراء تفعيلتين من تفعيلاته ليهدئ من سرعته الوثابة ، فيأتى مجوءاٌ ، ولا يكتفى بذلك ، بل يهذب أكثر واكثر فيستخدم القافية المقيدة التى تقلل من غلواء المتقارب ، ولذا لا يتوالى التضعيف فى القافية بكثافته الدلالية إلا فى آخر الأبيات لياتى الختام الدعائى مناسبا لهذه المناجاة الإيمانية الشفيفة :
لأنك فى القلب كل الذى فى وجودي محبَّب
لأنك فى القلب أدعوك يا رب ألا أُعذَّب
من لإيمانه ينطلق بدر بدير محلقا فى كل المعانى بقلب مفعم بحب الله والخوف منه ، ولذا فالحبيبة – دوما – هى الزوجة ، يقول فى قصيدة سردية طويلة ( عشرين بيتا من المتقارب ) ساردا لنا حكاية أربعين عاما فى قفص الزواج الذى يضفى عليه هالة التقديس والحب الصادق وبالغ الاعتزاز ، فيجعل منه قفصا ذهبيا بانيا عنوان قصيدته على بنية الحذف فى الأسلوب الخبري ( أربعون عاما فى القفص الذهبي ) ويستخدم هذه البنية الخبرية بما يتلاءم مع أسلوب السرد وهدوء الحياة الزوجية فى القصيدة كلها ، وهنا يُثوِّر طاقات بحر المتقارب ليلائم نشوته وسعادته بهذه الزوج المثال او المراة الاستثناء ، كما رسمها لنا من مخيلته هو ، وما خبره فيها من تقى وورع وإيمان ، فكانت نعم السكن ، كما جاءت قافية العين الموصولة بالألف ملائمة والمردوفة بالياء والواو على التبادل ملائمة لهذا الاعتزاز بهذه الزوج الصالحة .
يعتمد بنية الحذف فى مطلع سرده الشعرى ، ومسرّعا البنية السردية تاركا لخيالنا ان يتوقع المحذوف ، وتترى الأبيات فى سرد الحاضر واستباق المستقبل لنبنى نحن الماضى الماضى ، فننعم بلذّة بناء النص كما نعم هو بلذّة بناء العش : ( ديوانه ص11،12 )
ومرّت بنا الأربعون سريعا * ربيعا جميلا يضمُّ ربيعا
وما زلت فى الروض زهرة فلٍّ * ودوحة ظلٍّ وشدوَّا بديعا
يمرُّ على بيتنا موكب الدهر * هونا ألوفا رضيَّا وديعا
وهو لا يفتأ يكرر المعانى الدينية التى ملكت عليه فؤاده ، وشكّلت شخصه وشعره ، فمع أن الزوجة صارت هى الكتاب والمكتوب والروض والزهور والحلم المتحقق دوما :
وصِرت كتابي وديوان شعرى * وروضي وحوضى زهورى البديعا
وحُلمى الذى لا يفارق صحوى * وفى القلب أحفظه ان يشيعا
وهى الزوج والأم والأخت والأهل والحصن الحامى :
لقد صرت زوجا واما وأختا * واهلا ودارا وحصنا منيعا
فهو يعود فى الختام ليضفر هذا الحب الذى ملك عليه فؤاده بأسمى معانى الشفاعة عند اله عز وجل وبعد رسوله الكريم :
أحبك صبحا وظهرا وليلا * أحبك صيفا شتاءٌ ربيعا
أحبك دنيا أحبك أُخرى * وارضاك بعد الرسول شفيعا
هكذا تنبثق شاعرية بدر بدير من معين إيمانى ثر لا ينضب ، منه ينطلق فى " نداءات لاجيء " فيعالج قضايا وطنه القومية فى قضية اللاجئين الفلسطينين ، موجها رسالته إلى الأمة ( الديوان – نداءت لاجيء 29 بيتا من الخفيفص16، 17 ) :
أيها الناعمون فوق حرير * هل رأيتم هذا الشريد المُصابا ؟
يا ضمير الأحرار فى كل شعب * ينشد العدل منهجا وطلابا
أدرك العدل قبل أن يطفئ الشمس أُناس تنصَّبوا أربابا
أدرك اللاجئين من رهبة الموت * لنار النوى فماتوا اغترابا
وهو – هنا – يثوّر بنية التكرار ، ويستخدم الإنشاء بكثافته الشعورية الانفعالية وحضوره مناسبا بين نفسه الثائرة ودعوته إلى أبناء وطنه أن يدركوا هذا اللاجيء الذى لا يمثل شخصا ، بل يمثل أمة تحتضر فى مواجهة من تنصّبوا أربابا ، وهو يحذرنا جميعا قبل أن تغيب شمس العدالة ، ولا يفوته أن يصور بعض فجائع الصهاينة لعلنا نشاركه ثورته ونضع أيدينا معا مرة ثانية فى مواجهة هؤلاء الصهاينة الذين أذلوا رقابنا ، ونهبوا أرضنا ، ودنسوا اعراضنا ، فسيطر علينا الاكتئاب واختفى البدر الوليد :
سامك الخسف والهوان بنو * صهيون حتى لقد أذلُّوا الرقابا
نهبوا الأرض دنسوا العرض عمدا * فاختفى البدر فى السماء اكتئابا
مزَّقوا حرمة الطفولة جهرا * وضمير الأحرار فى الكون غابا
ومن قضية فلسطين إلى قضية بغداد ، ومن مشاعر الحج إلى مشاعر العمرة ، ومن قضية اللاجيء غلى قضية الشهيدة ليلى ، ومن تدنيس المقدسات فى القدس إلى انتهاك العروبة فى بغداد ، ولا يجد مفرا من العودة إلى أيامنا الأولى التى شهدت عمرو وعمرا وعكرمة فى مواجهة جحافل الشرك والوثنية بعد ان تركنا المرأة الخضرة التى كان الهوى والحب يطلبانها ، فتقدم روحها فداءٌ للرجال وللعروبة ، يقول فى قصيدته القمر الشهيد 36 بيتا من البسيط ص21 ، 24 :
لمن تركت الهوى والحب يا قمرا * سبحان من بالحياة قد زاده خضرا
يا أمة العرب ليس المجد مدخرا * للقاعدين وليس النصر منتظرا
فمنطق النصر والتاريخ يخبرنا * أن الفلاح لمن ضحى ومن صبرا
يا أمة العرب ليلى قدمت دمها * ولا أرى أسدا فى الغاب قد زأرا
ألم يعد فيكمو عمرو وعكرمة * أليس من بينكم من أنجبت عمرا
وهو فى السياق نفسه يوظف بنية التناص القرآنى فيما يخص الأمر للمؤمنين بإعداد القوة اللازمة والخيل المسوَّمة التى تستدعى عاشق العروبة الأول ، وشاعرها الأعظم أبا الطيب المتنبي ، فيهدى خطابته الإنشائية التى توالت فى هذه القصيدة بصورة أكثر كثافة تناسب دعوته وثورته :
والله يامركم كى ما نعد لهم * ما نستطيع فأعددناه مؤتمرا
الخيل والليل والتاريخ يطلبكم * ليلى تناشدكم ان تنهضوا زمرا
ويستخدم الحركة المفصلية التى يوظف لها بيتا غاية فى الدلالة والغقناع والتكثيف ، وهو البيت الوحيد المكرر عبر الديوان كله
لتدخلوا المسجد الأقصى مضمخة ٌ * أثوابكم بدمٍ يا طالما انهمرا
ورغم ثراء اللغة التراثية التى يتمتع بها بدر بدير لخبرته الطويلة بدروبها وبحارها ، فأنه يستخدم لغة خاصة ، فلم أجد فى دواوين القدامى استخدام المنحوت اللغوى ط حوقل " ، ومع ذلك فهو يستخدمه تارة عنوانا لقصيدة أو مقطوعة قصيرة فى خمسة أبيات " حوقلة " ينعي فيها على العرب حمقهم وسكرهم وغفلتهم وهوانهم مع انهم أحفاد وأصحاب العز والجاه ، وقد حباهم الله بكل كنوز الأرض ، وأخرى بعنوان " حوقلوا " من مجزوء الرمل ، بلغت حدذ القصيدة – عند ابن جني- ثلاثة عشر بيتا تشكل مع سابقتها متوالية شعرية ، يعتمد فيها طريقة السرد القصصى ، ويتناص مع الشاعر الكبير أحمد مطر ، مستخدما الشرط " كلما " على امتدا القصيدة ، ويستمر الشرط طويلا على مدى ثمانية أبيات من بنية الفعل الطبيعية المتوقعة من الصهاينة أعداء السلام والإنسانية ومصاصى الدماء وقاتلى الأطفال حارقي غصون الزيتون إلى جواب الشرط غير المكافيء لنية الشرط ، ولذا يحذف منه فاء الجزاء المستحقة معلنا ان هذا الجواب لا يرقى لمستوى الجزاء بالنسبة للفعل : " الديوان ص27 "
كلما وجه صهيون إلى اطفالكم بارودة أو قنبلة
حوقلوا يا سادتى أو حسبنوا فى السر حتى لا تزيد المشكلة
ومع نحت " حوقلوا " ياتى نحت " حسبنوا " إمعانا فى السخرية من رد الفعل المخزى إزاء الاعتداء .
وبدر بدير سيرة شعرية حافلة ومستحقة لدراسة طويلة مستفيضة متأنية ، فالرجل صنع تراثا شعريا ، وأسرة شاعرية ، امتدت فى الجذور والفروع ، فوصلت إلى الأبناء والأحفاد ، ولم يمنعه تدينه من ممارسة حقه الوطنى وواجبه القومى ، كما لم يمنعه هذا ولا ذاك من مواجهة قضايا مجتمعه بأسلوب فكه عذب يجمع بين الدعابة الذكية فى " ابتسامات ماكرة " والسخرية الاذعة فى حماريات " على طريقة لافونتين وشوقى وصولا إلى ابن المقفع واضرابهم من الشعراء والأدباء الذين اتخذوا من الحيوان رمزا ومعادلا موضوعيا ، وبخاصة توفيق الحكيم فى نثره الذى آثر الحمار من دون خلق الله ليجعل منه رمزا ودليلا على غفلة الإنسان ، وتميزه فى مقابل حماقة غيره من البشر .
هكذا تمتزج سيرة بدر بدير الشرقاوى الأصيل بتراب أرضه وتاريخ محافظته المشرف النبيل ، وهكذا امتزج شعره بدمه وتراثه الحافل بالإسلام والعروبة والوطنية والقيم السامية ، فكان الشعر رسالة ، وكان هو نعم الرسول .
أمدّ الله فى عمره وأكثر من أحفاده الشاعرين المهذبين .
أما فارس الحلبة الثاني فهو شاعرنا " رضا عطيه " ، ولا أقول الثانى فى ترتيب فرسان الشعر فى المحافظة ، وإنما أقصد الثانى فى ترتيب الكلام ونسق الدراسة الذى يستدعى اول له ثانٍ .
وسيرته لم تخرج عن هذا الإطار المرن الذى حددنا معالمه ، وتجلّت من خلاله شاعرية بدر بدير تظهر هذه السرية بكل ملامحها ومضامينها من العتبة الأولى للنص ، وعنوان الديوان " فصول من الاستسلام والمقاومة " واللافت أن يأتى العنوان – أيضا – عن طريق عطف المتضادين كما حدث عند بدر بدير فى ديوانه السابق الذكر " دموع وابتسامات " فنجده عند رضا عطيه أشدُّ إيلاما وأنكى للجراح ،" فصول من الاستسلام والمقاومة "
واللافت أكثر أن يأتى السالب قبل الموجب ، فالدموع تسبق الابتسامات ، والاستسلام يسبق المقاومة وهو ما يقارب بين الرؤيتين .
وغن كان بدر بدير قد صفع النقاد حين قدم ديوانه بنفسه نوعا من الدموع ممزوجا بابتسامة ماكرة ، فأن رضا عطيه قد أهدى ديوانه إلى المقاومين الصامدين فى كل بقاع الأرض ، أى أنه يعلن منذ البداية أنه فى فريق المقاومة ، وليس من طبيعته الاستسلام ، ومقاومة رضا عطيه أقوى من البارود والبندقية ، إنها المقاومة الكاشفة التى تجلى الحقائق ، وتفضح الآخرين بما هم فيه من خداع وتآمر وطغيان ، والأشد مرارة أن يجلى الذات العربية المتآمرة على نفسها المخدوعة فى زيف الكلمات وبلاغة الكذب التى صنعت الطاغية الجديد ، وهو أشد وانكى من كل طغاة الدنيا ، لأنه قد يكون من بنى جلدتنا ، ويتكلم بلساننا ، ثم يبيعنا فى النهاية لتتار اليوم كما باعنا أجداده الطغاة لتتار الأمس : ( الديوان ص 7 )

ما دامت الكلمات قد ماتت على شفاهنا
وصمتنا الكسيح خبز جبننا
وحلمنا ذرته " ريح ٌ صرصرٌ عاتيه"
وصار تجلّدنا سياط الطاغيه
فلتنتظر يا صاحبي أن تسقط الداهيه
**
كُنَّا قديما نكره التتار
ونرفض الحصار
لأننا كنَّا كبار
واليوم نعشق التتار
ونقبل الحصار
لأننا ..... !!
وهو إذ يتناص مع كتاب الله يوجه نداءه ورسالته إلى أمته التى تحوَّلت من عالم الكبار إلى أمة تستجدى الطواغيت ، وتقوم بصناعتهم ، ثم تأتى كل الدواهى تباعا لهذا الموقف ، ونتجة حتمية لهذا التفريط .
ولا غرو أن تتشابه موضوعاته – دون عمد طبعا – بعد ذلك مع بدر بدير فى رثاء شهيد الفجر وبكاء لبنان كما بكى بدير من قبله الشهيدة ليلى ورثى بغداد .
أمّا قضية القدس التى تجلّت فى قصيدته " منبت الشهداء "فهى القاسم المشترك بينهما ، لأنها القاسم المشترك فى الهم العربى كله ، يفرد ثلاثية لغزة تستلزم دراسة مستقلة وافية ، وهى استجابة شعرية وشعورية لأحداثها الأخيرة " دم ومقصلة ونار ص 46 " ، " المهرِّج الصفيق يدّعى انتصاره ص 49 ، " سننقش المأساة بالدماء ص 52 " .
وينفرد رضا عطيه بأن صرخاته تصل إلى حد السياط التى تلهب جلود الآثمين النعاج الذين يحمّلهم المسئولية وضياع شرف القضية فى قصيدته " شهيد الفجر " ص 12 " التى كررها بتمامها فى آخر الديوان " ص54 ".
وطرت بثوب العريس الشهيد
ترفرف فوق الخنازير ..
فوق الذئاب..
وتعلن أنك ما زلت نسراً
ما زلت ترجمهم بالحقيقة
وتخنقهم بالبراءة
وتفضح جبن النعاج الموامس
وخزي الخراف الخصيَّه
وعُري الذئاب الذين استباحوا..
الجميع وشقُّوا نطاق القضيه
ويميز رضا عطيه وضوحه الصارخ فى وجه الفاسدين ، يظهر ذلك فى جرأته فى اختيار ألفاظه التى تأتى تباعا فى إطار هجاء الخصوم ، ولا أعنى هنا انهم لا يستحقون : ( الخنازير – الذئاب – النعاج – الموامس ) . وإلحاحه على الذئاب بالتكرار يكشف كل الجبهات التى قد تبدو متصارعة فى الظاهر ، ويعلن أنها متآمرة فى الباطن ، كما أن الجمع والتعريف أفاد معرفته بهم رغم كثرتهم ، وهو ما نجعله نصدقه ، ونلمس عنده عمق الشعور والانفعال فى تلك الصور الاستعارية الصريحة التى تأتى فى أسلوب خبرى مؤكدا صدقه وصراحته ، ومدى كشفه الحقائق وتعريته إيّاها ، ولذا سيطرت الاستعارة التصريحية سواء فى مقام الإشادة بالشهيد النسر ، أم فى مقام الهجو للأوغاد الخنازير والنعاج الموامس .
ويأتى دور الهم الاجتماعى فى " مذكرات أب مقهور " ويأتى التنكير هنا فى سياق التعميم ، إذ يشكو همّنا جميعا ، وبخاصة أبناء الريف الذين عايشوا الرجال الحقيقين والآباء الشرفاء الذين أيقظهم الفجر ، فاستعانوا بربهم ، وحملوا فئوسهم وميراث آبائهم وأجدادهم من حمول ، وإن كان رضا عطيه يشكو بلسان الحال هذا الأب المقهور ، وليته دام ، واجتمعنا تحت ذاك اللحاف القديم والسقف المخروم تدفئنا المشاعر الحقيقية ، وتقترب دقات القلوب ، وتعلو إلى الله دعواتنا فى بصيص الفجر ساعتها كان سيأتينا النصر الذى يأمله ، والمقاومة التى يحلم بها .
ولم يفت رضا عطيه أن يتوجه ببعض قصائده إلى أسرته كما نجد فى قصيدته " ولدى " التى يخاطب فيها ولده " محمود ص37 "
ويبثه شكواه من الماضى ، وأمله وطموحه فى المستقبل ، والقصيدة تحتاج إلى وقفة طويلة لرباطها الفنى المحكم وصورها الأخّاذة ، وعاطفتها الصادقة الشفيفة ، ولعل المستقبل يسمح بذلك .
ولم يفته – أيضا – أن يستخدم قناع الصراع الحيوانى معادلا لذلك الصراع البشرى ، فيرمز للطاغية بالأسد فى مواجهة الضعفاء الجوعى الذين يشبههم بالفئران ، ورغم أن الاستعارتين من باب التقليد فإن الجمع بينهما – فى اعتقادى – من باب التجديد ، والقصيدة طويلة وفيها قدرة رائعة على السرد القصصى ن ليته يستثمرها فى ديوان مستقل ، إذ تخفف من غلواء صراحته التى قد تكون ضرورية فى بعض تجاربه ، ويتخذ منها قناعا فنيا فى تجارب يلزمها الرمز بوصفه ضرورة فنية لا أخلاقية ، وبخاصة فى الشعر ، إذ هو لغة الهمس والرمز والتكثيف والإيحاء : ( ديوانه ص20 )
حين يموت الأسد الفذ بعضَّة فار
لابد لقانون العالم أن ينهار
جاء وفود الغابة يوما إذ شاعت
في منطقة الأسد الفرد إشاعة غدر
يوصون الملك بألا يظهر في حفل غدٍ
ألا يزأر حتى لا يزعج فئران الثورة
لكن الأسد الثائر قال بأني استعددتُ ..
بقطط تفترس الفئران بنظرة عين
أدّبت الفئران الجرب كثيرا جدا
أما المناجاة الدينية التى لا نعدمها عند شعراء الشرقية ، إذ هى الأصل والمنبع والمصب – كما قلنا – فتتجلّى فى مناجاته الشفيفة لله – عز وجل – والسعى إلى المعرفة ، لأن المعرفة أول أبواب المكاشفة ، والمكاشفة أولى درجات الوصول ، يقول فى قصيدته " لأننى أراك ص 25 " :
لأنني أراك في ابتسامة الوليد
في بكارة الشباب
في انحناءة الهرم
وفوق كل من علا
وفوق كل من كبر
وفي سماحة الكريم
وفي تجبُّر القوي ..
في حلاوة الثمر
فأنت معبود البشر
* ثم ناتى إلى مسك الختام ، فارس الحلبة الثالث فى ترتيب الكتابة الشاعر الصامد الصامت المثابر محمد سليم الدسوقى وديوانه الذى يحمل هذه الثنائية الضدية – أيضا – التى اتفق فيها شعراء الشرقية ، وإن كان يبدا بالعنصر الإيجابى مخالفا – بذلك – سابقيه ، فيأتى عنوان ديوانه هكذا : " ثال القطيفة والبندقية " وفى الحقيقة إن هذا التقديم يحمل رؤية متمايزة للشاعر عن نظيريه السابقين ، تتضح على طول ديوانه ، رغم ما بين ثلاثتهم من تشابه واضح يصل إلى حد تكوين مدرسة أدبية أو اتجاه أدبى على أقل تقدير .
التفاؤل هو الملمح الذى يسم ديوان محمد سليم الدسوقى ، أما ما يشاركهما فيه فالخطوط الثلاثة التى أوضحنا ظلالها وألوانها التى تكاد تنحصر فى ألوان ثلاثة رئيسية تتفرع عنها خطوط فرعية تتصل بها ، وتنبثق عنها هى : الدين وقضايا الوطن ورسالة الشعر الاجتماعية السامية ، يظهر هذا التشابه من العتبة الأولى " الأضداد المتنافرة " وتؤكده العتبة الثانية ، أقصد إهداء الديوان ، إذ يهديه – أيضا – إلى شهداء الأمة ، ثم يبدا ديوانه على غير توفيق فى ترتيب قصائد الديوان – كما فعل أيضا نظيراه – ببطاقة بوح لأبيه زارع الطيب على صدر الوطن وإن كان أكثر توفيقا من رضا عطيه فى رسم صورة الأب ، ذلك الفلاح الأصيل الذى كان قادرا على أن يفجّر نور الصباح من ظلمات الليل ، ومما يلاحظ – هنا أيضا – ارتباط الاجتماعى بالوطنى ، وهو ما نجده فى قصيدته الثانية " إلى سلوى حبيبتى ": رسالة حب من شاطئ الموت إلى ارض الوطن ، وهى من القصائد المتميزة التى سكب فيها آلامه الخاصة ومزجها بآلام الوطن ، وانتقل من حبيبته " سلوى " إلى الشهيدة الغالية " ليلى " التى توقف لرثائها مرات عديدة .
ولا غرو أن نجد لفظ " الشهيد " هو أكثر الألفاظ ترددا فى ديوانه كله من الإهداء الذى بدأ به إلى آخر صفحات ديوانه ، وغذا كان لكل شاعر كلمة مفتاحية ، فإن كلمة " الشهيد " هي مفتاح النص الكلى لشاعرنا ، وهو يقترب إلى حد كبير من بدر بدير فى رثاء " ليلى " الشهيدة التى ضحّت من أجل العروبة ، فبدر بدير يقول فى القمر الشهيد ( من الشعر العمودى 36 بيتا من البسيط ص21 ):
لمن تركت الهوى والحب يا قمرا * سبحان من بالحياة قد زاده خضرا
ومن حباه لحاظا كلما نظرت * سبت ومن غير قصد كلُّ من نظرا
ويقول محمد سليم الدسوقى من شعر التفعيلة ( ديوانه ص11 )
قولى لها يا سلوتى...
فى ليل جِلوتها الجميلةْ.
والعُرسُ يحْفـِل بالنشيد…
وبالخميلة:-
قد كنتُ - يا ليلى- حريًّـا...
بالحفاوة…
والطلاوة...
والعروسْ .
وتذكرنا القصيدة – أيضا – بقصيدة رضا عطيه شهيدا الفجر ( ديوانه : ص12 ) ، وتتجلّى المشابهة أكثر إذا نظرنا فى قصيدة محمد سليم الدسوقى " أيا فارس الفجر ذاك الملثّم – ديوانه ص59 ) ، غنه تشابه المنهج والفكر والتوجه .
ولكن نزعته الرومانسية الهادئة – أيضا – تميّزه عن غيره ، فحين يحمِّل بدر بدير أمة العرب وزر ليلى .. ن وينعي عجزهم عن الثأر لها ، يقول فى نبرة خطابية متهكمة ، تصل إلى حد السباب المر : ( ديوانه ص22 ).
من يطلب الثأر يا ليلى وقد بسمت * قبائل العرب صارت فى الورى بقرا
بينما تتجلى رومانسية الدسوقى وتفاؤله أيضا : ديوانه ص28 ) :
وكفّشى يعانق أشياءه الضاريات ..
يزمجر..
يغرس فى شاطئيه الأمان
وترسم فوق الكراريس " ليلى " ...
بنودا ترفرف ...
تهتف ..
تعلو على قبَّرات الهوان
وعقد البنفسج ...
ذاك الوضيءِّ
يموج على صدرك المرمرى
فترضين بالعشق والأمنيات
وتغنين بالفجر ..
ذاك الشّجيِّ
وهذه اللغة الرومانسية تتجلى فى معظم ديوانه ، وتمكنه من نقل لغة الحب إلى ميدان الحرب : ( ديوانه ص47 ) :
لأجلك ..
أحببت ، أدمنت طقم الشهادة
وأدمنت يا هند – لون القلادة
وذوبت فى وجنتيك ، يديك ..
العيون اللواتي صببن المنايا ..
شهيّات حبي ، وقربى ..
وأجراس شمسي ...
والصورة الأخيرة " أجراس شمس " تقع فيما نسميه تراسل الحواس وهى خصيصة رومانسية أيضا ، ومفردة " الشمس " هى أكثر المفردات تكررا فى ديوانه بعد مفردة " الشهادة " التى استخدمها فى صور مختلفة " الشهادة – الشهيد – شهيدة .. الخ
أمذا نزعته الدينية فواضحة وضوح شمسه من خلال التناص القرآنى الذى يأتى بمختلف صوره وأشكاله فى ديوانه .. واللافت – هنا أيضا – أن يأخذ من قول النبى صلى الله عليه وسلم .. : " أرحنا بها يا بلال " عنوانا لإحدى قصائده بل جملة مفصلية يستفتح بها كل مقاطع القصيدة ص78 " ومما يتصل بذلك – أيضا – ذكره " الطير الأبابيل " و " وأبرهة " وعظماء الإسلام وأبطاله الفرسان الذين قادوا الأمة إلى النصر والنور ، وبخاصة فى قصيدته : افيكم أسامة يرعى الزمام ؟ " ديوانه ص21 التى جعل من استفهامه هذا عنوانا وخاتمة للقصيدة ، وتكرر فيها كثير من المعاني والألفاظ والإسلامية ..
ولم يعد من الحتم اللزام أن اشير إلى قضية القدس التى صارت من القواسم المشتركة بين شعرائنا الثلاثة ، فهو على إشاراته الكثيرة يفرد لها قصيدة بعنوان " واغزلى للقدس شالا من دمي .. ديوانه ص14 ) . وثانية نزارية الملامح بعنوان : " زهر المدائن : ص16 " وثالثة بعنوان " أنا يا نيل من يافا – ديوانه ص54 ) ، يرثى فيها العرب ويصف التشظى العربى والانقسام الإسلامي ونحن أمة واحدة وديننا واحد وقضيتنا واحدة والقصيدة من القصائد السريعة الإيقاع الموسيقى مما أثّر تأثيرا فعالا فى التلقى والاستجابة والانفعال والتجاوب .
وتتجلى -أيضا – نزعته السردية القصصية فى قصيدته الجميلة " صباحية – ديوانه ص57 " التى يصل فيها التشويق والإثارة حدّا مدهشا حقّا .
وكما يرى رضا عطيه ان تتار اليوم هم تتار الأمس وأحفادهم، ويرى الدسوقى ان كهّان خيبر ما زالوا فى المعبد ( الديوان ص67 ) ، ولذا يكثر التناص القرآنى بشكل لافت فى هذه القصيدة ، وهو يشحن قدرته السردية ولغته النزارية ورغيته العارمة فى الشهادة فى قصيدته :
فمن يعطيه عنوانى .. كما تظهر بعض التجليات الصوفية فى قصيدته الأخيرة" حصار حصار ص85 " أما ما يستحق الوقوف طويلا حقا – وإن كان المقام لا يسعف هو موسيقا الدسوقى التى توحى بشاعر موسيقيّ من طراز فريد يذكرنا بالبحترى وابن الرومى وابن زيدون وأضرابهم من شعراء الموسيقا فى تراثنا العربى .
وقد ثوّر الدسوقى كل طاقات اللغة العربية ، واستغل خبرته العميقة بجمالياتها ليوفّر لقصائده أكبر قدر ممكن من الموسيقا ، وسوف أتوقف هنا عند أهم مفتاح من مفاتيح نوتته الموسيقية العبقرية ..
إن اول درجات السلم الموسيقى عنده موسيقى اللفظ التى تتجلى فى التكرار بأنواعه .
وهو على قلته فى شعر الأقدمين كثير فى شعراء المحدثين كثرة واضحة .
والعجيب أن يختلف القدماء حول قيمة التكرار كما اختلفوا فى وجوده ، وكان مبعثهم إلى ذلك كثرته فى كتاب الله عز وجل ، فكثرت فى تصانيفهم الإشارة إلى هذا المبحث ، يقول ابن فارس ( ت : 395 هـ ) " ومن سنن العرب التكرار والإعادة إرادة الإبلاغ بحسب العناية بالأمر " ( الصاحبي : ص77 ) .
وإن ربطه ابن فارس بالعناية والاهتمام فقد ربطه ابن قتيبة ( ت 276 هـ ) بإرادة التوكيد والإفهام .
( تأويل مشكل القرآن : 240 – 241 ) أما ابن الأثير ( ت 637 هـ ) فأرجعه إلى إرادة التنغيم وترجيع الصوت ( المثل السائر : 3/ 22 ) ، كما يؤكد أن التكرار أبلغ من الإيجاز وأشد موقعا من الاختصار ( السابق : 3 / 11 ، 19 ) ، ومن العجيب أن يرجع بعض المحثين التكرار إلى ضيق اللغة ومحدوديتها ، وعدم قدرتها على تكوين المعانى أحيانا ( النثر الفني فى القرن الرابع الهجري : 294) .
والحقيقة أن للتكرار دورا عظيما فى الأداء الفني ، وقد قال بعض الفلاسفة " غن للنفس كلمات روحانية من جنس ذاتها " ( عيار الشعر : 23 ) كما أشار د . زكى نجيب محمود إلى عبراة مهمة نقلها عن أحد النقاد الفرنسيين مؤداها أنك إذا ما تناولت بالدرس أديبا ما فإنما تصل إلى مفتاح شخصيته لو أنك وقعت على الكلمة التى ما تنفك تتردد فى أدبه اكثر من سواها .. ( فى فلسفة النقد :6 )
وكما رأينا سالفا أن مفتاح شاعرنا الدسوقى يكمن فى تكرار كلمتى " الشهيد " و" الشمس " وكأن الشهادة هى الشمس التى تبدد ظلمات الليل ، وتوقظ النائمين الغافلين وتعيد إلى الأمة وجهها النضر الذى لوّثته الاستكانة وشوهه الرضى بالذل والهوان .
وهذا التكرير هو مفتاح عاطفة الشاعر القوية نحو وطنه وأمته .
أمّا من الناحية الموسيقية فإن هذا التكرار يضفي بعدا نغميا لا تخطئه الأذن، وتكرار اللفظ كما ان له صلة وثيقة بموسيقى الشعر الداخلية بما له من تفنن فى طرق ترديد الأصوات يحدث نغما موسيقيا يسترعي الآذان ، فإنه وثيق الصلة – أيضا – بنياط القلوب بما يثيره من ترديد لعاطفة الشاعر فى نفسه وفى نفوس القارئين او السامعين ( شعر الطبيعة فى نجد ص356 ) .. ومن التكرار التام يقول الدسوقى فى قصيدته " افيكم أسامة يرعى الزمام ص21 " من المتقارب أيضا :
وشمسىَ تذبحُ والصّامدونْ * سقاها العدوّ ضرام المنون فأشهد أن لاإلــه سواكَ * وأن رسولكَ هذا الأمينوأن الشهادة وعدٌ ، وحقٌّ * وأن الشهادة نصرٌ مبينوأن الذِّمام الحرام انتصافٌ * أفيكم أسامةُ يرعى الذمام..؟فقولوا الشهادة والرّوحُ تسرى * وقولوا الشهادة فوق الحصـونْحرامٌ على أمتى تستضافُ * وبحرُ الدماء يصلى حرام !
فأشهد أن لاإلــه سواك * وأن رسولـك هـذا الأمين
وشمسىَ تذبحُ والصامدون * سقاها العدوُّ ضرام المنون
ثم يكرر المقطع كله مرة ثانية .
* ونلحظ من هذا التكرار إبداعه فى وقعه مواقع متناظرة من بنية النص مما جعله يؤكد موقفه الثابت من الشهادة بموقف ثابت من التكرار نفسه ، وذلك بإيراده فى البنية الأسلوبية نفسها .. ونلحظ ان التكرار الرأسي يرتكز أيضا على ركيزة أسلوبية مميزة فى شعره هى التوافق المكانى مما يدل على انه يحمل قدرا من الإبداع ، وطاقة عالية من الشاعرية ، وثراءً فى الإحساس بجماليات اللغة ، كل ذلك أتاح له ، أى للفظه المكرر أن يؤدى دورا إيقاعيا مؤثرا فضلا عن دوره الدلالى العميق ... والمثال السابق يؤكد تزاوج التكرار الرأسي مع التكرار الأفقى مما يجعل الأبيات دفقة شعرية وشعورية واحدة لارتباط الدلالة بين ألفاظ التكرير .
* وللتكرار الأفقي وظيفة أخرى هى التكثيف الإيقاعى والموسيقى للأبيات بما له من تماثل حرفى ودلالى على صعيد واحد ، وذلك لأن الضابط الإيقاعى للتكرار ينشأ من المسافة الزمنية المتكررة والمتساوية بين موقعى التكرار ، فتتفاعل المجاورة مع البعد الزمنى فتحدث أثر السحر فى موسيقا الأبيات ، وقد توقف علماء الألسنية أمام هذه الظاهرة بما تمثله من تقارب دلالى ينشأ عن التقارب الصوتى . ( بناء لغة الشعر: 52، 75 ، والبنى الأسلوبية : 98 ن 99 ) .
وهذا التكرار الذى يجمع بين التماثل فى الصوت والدلالة يزيد من حدة التكرار بالتجاور .
ولم يفوت شاعرنا فرصة التكرار التام عن طريق الجناس التام وإن جاء نادرا مثل قوله فى القصيدة التى حمل الديوان عنوانها " شال القطيفة والبندقية التى جعل من ندائه " يا مجدلية – خاتمة لكل مقاطع القصيدة ، ياتى فى المقطع الختامى هكذا : " ص40 "
يا مجدليّة ...
ويا مجدُ ( ليَّه ) .
ويستغل الفضاء المكانى / النصي / الكتابي الذى وظّفه بمهارة غير مرة ، وهو ما يسميه أستاذنا الدكتور محمد عبدالمطلب البعد المكانى فى الشعر الحديث ، الذى حلَّ محل البعد الزمانى فى بنية التكرير فى الشعر القديم .
اما التكرار الجزئى أو المقطعى او ماتسميه فاطمة محجوب التجانس الخلفى ( دراسات فى علم اللغة ص43 ) الذى يعتمد على التناظر المكانى فهو من أقوى وسائل الإيقاع الداخلى فى الشعر وقد استغل الدسوقى هذه الخصيصة التى وفرت للغته قدرا عاليا من الموسيقا : ديوانه ص56 ) :
انا يا نيل من يافا
وأروادى
وآبادى
وآسادى
واعيادى.. خليلية !
وهو يتناغم مع الجناس الصرفى الذى سيطر على الديوان كله ، يقول فى قصيدته " شال القطيفة والبندقية ص14 ) :
تمُورُ على شفتيْكِ الهُوِيّةْ و يُسْتشهَد السّحـر... والعطـر... و البحـر... والدّهـر... والرّيح ، والرّوح ، والأمنياتْ وتبقى هنا... عندنا... فوقنا..
إلى أن يقول فى المقطع الثانى :
تعالىْ لغيطكِ...
بين الكرُوم...
وبين الهُمُوم...
وحبّاتِ تمْرى...
وعُرْجُون صبْرى...
وتبْغِى المُعتـّق ِ ...
فـُرشاةِ صَـبْغى...
تلوّن مُهجتها بالدّماء...
السّجينة خلف الحُصُون...
الغُصُون...
المنُون...
إلى أن يقول فى المقطع الرابع :
صبوْتِ...
وصبوُكِ عندى مضاءٌ...
وفاءٌ...
قضاءٌ...
رضابٌ...
خضابٌ...
ويتدث عن موسم الحصاد فى المقطع نفسه بأنه :
قد يجىء بُعيْد اجتثاث سُموم الأفاعِى...
صِراعى...
قـِراعى...
طهارة كفِّى ، وصفِّى...
ويبدأ المقطع الخامس هكذا :
تمُوءُ السّنابلُ فى راحتيك ...
تموت السنابلْ
وتُعطى البيادرُ أنداءها...
والسادس هكذا :
وتبقى العصافيرُ فوق...
العشاش...
العطاش...
تودّع أفياءها ، والرّياشْ...
تقبّل شالَكِ...
بالَكِ...
أغنيةً للصّباحِ...
الوشاح...
وإذا تتبعنا الديوان كله تصير هذه الخصيصة سمة عامة للنص الكلى مما يحدث تكثيفا موسيقيا وتثويرا لطاقات البديع ، وغن كان تند عنه بعض الهنذات المعنوية التى تنجم عن ولعه بالجناس الذى قد يوقعه فى الالتباس واختيار كلمات يلومه عليها بعض الناس كقوله : ( الديوان ص7 ) :
يا سلْوتى أو تسمعين ؟!
أو تقرئين خواطرى..
ونواظرى...
وتؤوِّلين ، تولْـولين ؟...
فأعتقد أن الكلمة الخيرة لا تتلاءم مع لغته الرومانسية الشفيفة حتى فى معانى الغضب والثورة .
وقدرته على الاشتقاق والنحت تتآزر مع الجناس والتكرير الذى يظهر – أيضا- على مستوى التراكيب بصورة لافتة ، وتكرار التركيب هنا لا يعد تكرارا تاما ن فهو قد يستخدم الفعل المتعدى لمفعوله مباشرة ن وقد يعترض بشبه الجملة ، بما يثري الدلالة ، كما يثري الموسيقى بشبه الجملة المعترض كما فى افتتاحيته لقصيدته " قرأت على شفتيك الشهادة ص41 " التى تاتى هكذا :
قرأت على شفتيك الشهادة
قرأت السعادة
وقد يغير التركيب محافظا على إيقاع المضاف ، ومستغلا تكراره بتغيير المضاف إليه مع الحفاظ على البنية الصرفية للمضاف غليه المتغير بما يوفّر أعلى قدر ممكن من الموسيقا ، كقوله فى ختام القصيدة نفسها ( ص46 ) :
جنود الشتات / جنود النذالة / جنود الوضاعة ... / جنود البلادة ... / والارتدادة ...
ومما يساعده على استخدام " هذه البنية الموسيقية – فضلا عن أذنه الموسيقية ، وحسه المرهف – لغته الثرية القادرة على جمع الحقول الدلالية ، بما يوفّر له تكثيفا معنويا وشعوريا وموسيقيا ، ولعل أظهر الشواهد قوله فى قصيدته ( أيا فارس الفجر ذاك الملثم ص62 ) :
أبيعُ القلادة كى أفتديكَ...
أبيع المهور لكل البنات ، وللمرسَلات...
أبيع الزهَر
أبيع الهديّةَ أهديتَها...
وقلتَ:- غداً عرسْنا والمطر
أبيع الوضاءة من طرف عينى...
أبيع العُمُرْ
إن التكرار – هنا – بقدر ما هو ضرورة فنية يمثل – أيضا – ضرورة إنسانية تفرضه ضرورات التواصل العقلى والنفسى والشعوري فى الحياة العقلية والأدبية التى يفزع إليها الناس تخففا من هموم الحياة وىلامها ووطاة ما يعانونه من عنت وظلم واستبداد وابتغاء الراحة للنفس ، واستقرار للروح بما يسكبه ذلك التكرار من نفحات تسكن ثورة النفس وتنفذ إلى أعمق أعماق الضمير الإنساني . ( يراجع كتابنا : شعر الطبيعة فى نجد : ص356 ) .
وربما كانت نظرة القدماء قاصرة لهذا التكرار ، لأنهم توقّفوا عندما يعرف بنحو الجملة ، أمّا المحدثون فقد استغلّوه فيما يعرف بنحو النص .
وإذا تحدثنا عن قوافى الدسوقى الداخلية وإيقاعها ، وتفعيلاته ، وتأثيرها وتنويعه القوافى داخل مجزوءات البحور كما رأينا فى قصيدته القصاص " ص23 " التى تتوالى فيها قوافى الصاد والنون والراء والميم ، ثم يعود إلى تلك القافية الصعبة – الصاد – مكررا المقطع الول داخل مجزوء الكامل – لطال بنا الحديث ولاحتاج الأمر إلى دراسة مستقلة لا تناسب هذا المقام لشاعر غزير الإنتاج استطاع أن يشدو بقصائد ذاك الديوان فيما يقارب ثلاثة شهور فقط ، وغزارة الإنتاج تصاحبها إجادة بالغة وشاعرية حقة .
أسعد الله الشرقية بشعرائها المجيدين الذين جاءوا ثمارا يانعة لتاريخ أرضهم المشرق النبيل ونبتا شعريا مشرقا لهذه التربة الشريفة ، وطيورا مغردة لحديقة الشعر العربي الحديث.



أهم المصادر والمراجع
بناء الأسلوب فى شعر الحداثة ( التكوين البديعى ) د. محمد عبدالمطلب . القاهرة . دار المعارف- ط3 1993م
بناء لغة الشعر : جون كوين- ت. وتقديم . د . أحمد درويش – القاهرة – دار المعارف ط3 – 1993
البنى الأسلوبية ( دراسة فى أنشودة المطر للسياب ) د . حسن ناظم – المركز الثقافى العربى – 2002م
تأويل مشكل القرىن : ابو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدنيورى " ت 276 هـ" تحقيق/ السيد احمد صقر – القاهرة – دار التراث ط2 1973
دراسات فى علم اللغة – د.فاطمة محجوب – دار النهضة العربية 1978م
دموع وابتسامات . بدر بدير – أصوات معاصرة 2006م
شال القطيفة والبندقية – محمد سليم الدسوقى – أصوات معاصرة 2005 م
شعر الطبيعة فى نجد – د. محمد سيد على – طنطا 2003 م
الصاحبى فى فقه اللغة العربية وسنن العرب فى كلامها : لأبى الحسين أحمد بن فارس بن زكريا " ت 395 هـ " شرح وتحقيق / السيد أحمد صقر – القاهرة – الهيئة العامة لقصور الثقافة – 2003م
عيار الشعر : أبو الحسن محمد بن احمد بن أحمد بن طباطبا العلوى " ت 322هـ " تحقيق د. عبدالعزيز بن ناصر المانع – الرياض – دار العلوم للطباعة والنشر 1985م/1410هـ "
فصول من الاستسلام والمقاومة – رضا عطيه – الزقازيق 2009م
فى فلسفة النقد – د. زكى نجيب محمود – بيروت – دار الشروق 1971م
المثل السائر فى أدب الكاتب والشاعر : ضياء الدين بن الأثير " ت 637هـ " قدمه وعلّق عليه د . أحمد الحوفي ، د. بدوى طبانه – القاهرة – دار نهضة مصر – 1973 م
النثر الفنى فى القرن الرابع الهجرى : د. زكى مبارك – بيروت – دار الجيل -1975م

الأحد، 2 أغسطس 2009

جديد الشعر الأندلسى بقلم د . محمود عبدالحفيظ


ما دام الشعر الأندلسى الخالص لم يظهر إلا مع القرن السادس الهجرى، وما دام الجديد قد تأخر إلى أن ظهر ابن خفاجة، فلنؤجل حديث الشعر – القصيدة – الآن، ولننظر فى جديد الشعر الأندلسى:
"الأزجــال والموشحــات"
ولسوف تطول – قليلا – هذه الفقرة، لأننى سأتحدث فيها عن "ابن قزمان.. والزجل":
(1)ابن قزمان هو إمام الزجالين بالأندلس كما يراه ابن سعيد الذى ينقل عن الحجارى أنه:
(كان فى أول شأنه مشتغلا بالنظم المعرب، فرأى نفسه تقصر عن أفراد عصره كابن خفاجة وغيره، فعمد إلى طريقة لا يمازجه فيها أحد، فصار إمام أهل الزجل المنظوم بكلام عامة الأندلس)(1)، وهذه عبارة مشهورة جداً عن ابن قزمان، وفيها مقابلة بين النظم المعرب، والنظم بكلام العامة، ويذكر ابن خفاجة ممثلا لقصيدة الفصحى التى لم يجد ابن قزمان نفسه قادراً على صنع شىء جديد أو لافت فيها.. (فعمد إلى طريقة لا يمازجه فيها أحد)، ومن هنا يبدأ الحديث عن الزجل مقترنا بالعامة والعامية، فى مقابل شعر الصفوة الذى هو منظوم بالفصحى المعربة.
ويرى ابن الخطيب – فى الإحاطة – أن ابن قزمان: [نسيج وحده أدباً وظرفا ولوذعية وشهرة: قال ابن عبدالملك: كان أديبا بارعا محسنا حلو الكلام، مليح التندير، مبرزاً فى نظم الطريقة الهزلية بلسان عوام الأندلس، الملقب بالزجل:
قلت: وهذه الطريقة بديعة يتحكم فيها ألقاب البديع، وتنفسح لكثير مما يضيق سلوكه على الشاعر، وبلغ فيها أبوبكر مبلغا حجره الله عن سواه، فهو آيتها المعجزة، وحجتها البالغة، وفارسها العلم، والمبتدى فيها والمتمم- رحمه الله](2).
وهنا تدخل كلمة أخرى: "الطريقة الهزلية"، ويذكر ابن الخطيب: عوام الأندلس، لكن ابن الخطيب يلتفت إلى أن هذه الطريقة: تنفسح لكثير مما يضيق سلوكه على الشاعر، وهو يقصد بالشاعر هنا "ناظم الفصحى".. كما يشير إلى أن الزجل يتعاطى هو أيضاً فنون البديع. ولعل عبارة: (وبلغ فيها أبوبكر مبلغاً حجره الله عن سواه) هى نفسها عبارة (فعمد إلى طريقة لا يمازجه فيها أحد) عند ابن سعيد.
*
(2)على أن ابن خلدون يقدم الرجل وفنه فى عبارة أطول، ولعله يذكر أشياء أكثر، يقول:
(ولما شاع فن الموشح فى أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه؛ نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا فى طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعرابا، واستحدثوه فنا سموه "بالزجل"، والتزموا النظم فيه على مناحيهم إلى هذا العهد، فجاءوا فيه بالغرائب، واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة.
وأول من أبدع فى هذه الطريقة الزجلية أبوبكر بن قزمان، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس؛ لكن لم يظهر حلاها ولا انسكبت معانيها واشتهرت رشاقتها إلا فى زمانه وكان لعهد الملثمين، وهو إمام الزجالين على الإطلاق، قال ابن سعيد: رأيت أزجاله مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب، قال: وسمعت أبا الحسن ابن جحدر الإشبيلى إمام الزجالين فى عصرنا يقول: ما وقع لأحد من أئمة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة)(3)..ها هى البلاغة يتسع لها مجال فى الزجل، وها هى لغة العجم تدخل إليه، ولقد كانت البداية مع الموشح؛ ثم نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله الذى هو مخالف لشكل القصيدة.
*
ويقول ليفى بروفنسال: [إنما سلكت الأندلس طريقها الذى هيئت له حين اخترعت الزجل بلغة عامية عربية إسبانية، وحين خلقت ما يقابله فى العربية الفصحى وهو الموشحات، فجرى عندئذ دم جديد فى عروقها الشعرية بعد أن كادت تتجمد، ولم تتردد الأندلس فى التحرر من كثير من قواعد العروض الصارمة العاتية، ومن موجبات القافية والتزام قافية واحدة فى كل القصيدة، كما يتحرر الإنسان من الأغلال.
ولقد كانت هذه الأغلال إلى ذلك العهد مقبولة، ولكن الأندلس لم تستطع أن تبذ فيها أساتذة المشرق، وهكذا نشأ شعر مجدد إسبانى بحت، وتسربت إليه اللغة الرومانثية التى أصبحت لغة كثير من المسلمين، فجاورت العربية الإسبانية، وكان ممثل هذا الشعر أمير شعرائنا الأندلسى أبوبكر بن قزمان](4).
أما إميلو جارثيا جومث فيراه قمة شعرية وعبقرية مفاجئة، يقول: [إن ابن قزمان يمثل إحدى القمم الشعرية فى تاريخ الأدب فى العصور الوسطى كلها، ففى هذه الأزجال التى خلفها لنا من النضارة المتوهجة والفكاهة الساخرة، والرقة اللعوب، والطرافة المدهشة ما يستحوذ على إعجابنا بذلك الصوت الفريد الذى استطاع أن يبتعد عن تلك الموضوعات والأساليب المطروقة المتكررة فى الشعر العربى. وتتأكد هذه الصفة إذا قارنا بينه وبين شعراء عصره، الذين كانوا يتكلفون النظم فى بحور الشعر التقليدية، بل كذلك بينه وبين شعراء التوشيح الذين تحولت الموشحة على أيديهم إلى فن كاد يستهلك طاقاته.
وإذا وضعنا ابن قزمان فى إطار العصر الذى قدر له أن يعيش فيه، ومدى التناقض بينه وبين ذلك العصر الذى كاد الشعر ينحسر فيه، ازداد إعجابنا بهذه العبقرية المفاجئة التى استطاعت أن تقدم لنا فنا جديراً بأن يحمل صفة الأندلس بكل جدارة](5).
*
(3)ويرى الدكتور إحسان عباس أن ميزة ابن قزمان الكبرى: [تكمن فى قدرته على النقل الواقعى والتصوير التحليلى الدقيق، وإدخال الحركة القصصية فى أزجاله، وتمثيله الصوتى فى المواقف الدرامية، وظرفه فى معالجة موضوعه حين يسف فى الكدية أو يفحش فى القصص](6).
ويرى الدكتور أحمد هيكل أن الزجل عموما- كأى فن شعبى-: [يعبر عن روح الشعب الأندلسى ويعكس طابعه النفسى والسلوكى الخالص، البعيد عن الرسميات والتقليديات والمواضعات التى يعكسها الشعر الفصيح](7)..ويمضى بنا المرحوم "أحمد أمين" إلى جمهور الزجل فى معرض حديثه عن ابن قزمان، يقول:
[هو شاعر من نوع آخر: لئن كان الذين سبقوا شعروا لخلفاء وأمراء ووزراء وعلماء، أو شعروا لأنفسهم من غزل ونسيب ونحو ذلك، فابن قزمان شعر للشعب، وقد رأى أن يطرب الناس بالزجل والموشحات، فقال فى ذلك شعرا وجال به فى الآفاق؛ فنراه فى إشبيلية وقرطبة وبلنسية وغير ذلك من البلاد، ويظهر أنه كان من صميم الشعب](8).
ويسلمنا حديث أحمد أمين عن "الشعب والتجوال"، إلى ما يراه الطاهر مكى خاصا بالزجل فى لغته وإنشاده والتجول به، فيقول: (كان مسلمو الأندلس- فى جملتهم الغالبة- من العناصر التى لقيها الفاتحون المسلمون فى شبه الجزيرة، ومع استقرار هؤلاء انتشرت لغتهم، وساد دينهم، وأخذ السكان يتكلمون فى حياتهم اليومية لغة: هى خليط من العربية والرومانثية، ولقد ابتدع الزجل فى قرطبة فى أواخر القرن التاسع الميلادى وأول العاشر، ليواجه هذه الظاهرة، ويرضى الفهم الجمالى عند المتحدثين بها، ممن لا يفهمون العربية الفصحى، ولا الرومانثية الخالصة، ولا اللاتينية المتحجرة.
وإذا كان ديوان ابن قزمان أحسن مثل لهذه الظاهرة فى اللغة العربية، حيث تتناثر الكلمات الرومانثية بكثرة وسط الكلمات العربية، فثمة أشعار رومانثية أيضاً لشعراء جوالين مسيحيين جاءت على هذا النحو؛ حيث تتناثر الكلمات العربية وسط الكلمات الرومانثية، وكانت مفهومة لأى أندلسى حتى ولو كان مسيحياً شمالياً لا يقيم بين المسلمين)(9).
وإذن: لم تكن اللغة عائقاً أمام هذا الفن الجديد، وربما كانت اللغة المزدوجة عاملاً مساعداً فى ابتداع هذا الفن ليواجه هذه الظاهرة اللغوية المزدوجة، وسيجد ابن قزمان والزجالون جمهوراً يسمع ويفهم ويطرب فى كل بلد.
*
وعن ابن قزمان تحديداً يقول الطاهر مكى(
*):
[إلى حد بعيد يمكن اعتبار ابن قزمان المتوفى 1160م مثلاً للشاعر الجوال ، وأورد لنا المؤرخون نتفا من أشعاره، ووصلنا ديوان أزجاله كاملاً، وكان فى حياته الخاصة مثالا حياً للمسلم الأندلسى الأصيل، كان مرتفع القامة، اشقر الشعر، أزرق العينين، عربيداً متهتكا، غير كبير اعتداد بالدين والتقاليد، قليل الاستقرار والإقامة، كثير الرحلة من بلاط إلى بلاط، يربح عيشه من الحفلات خاصة أو عامة، يعيش من شعره، ويستهدى ممدوحيه وسامعيه: نبيذا أو ملابس أو دقيقا أو سكنا، أو جواهر لعشيقاته، أو حتى دراهم ليقص شعره، وهو إلى جانب أنه شاعر وزجال، صاحب نكتة ونادرة، جليس ومسامر، يستطيع أن ينثر البهجة ويبعث المرح بين من يسهرون معه أو يستمعون إليه، وهى خصائص الشاعر الجوال كما أومأنا إليه](10).
وبعد..
فقد أوردت فى هذه الفقرة بعض الآراء التى تحدثت عن الزجل لغة وجمهورا، لقد كان الزجل فنا جديداً مفاجئاً، وكان ابن قزمان إمام هذا الفن، ولعلنا أحسسنا تعاطفاً واضحاً مع الفن وإمامه الذى كان شيخ الصناعة – يا له من لقب- لكن هناك بعض الآراء الأخرى تمضى بنا فى اتجاه لابد من رصده وتأمله.
*
(4)يقول أنخل جنثالث بالنثيا:
[والزجل والموشحة فى واقع الأمر فن شعرى واحد، ولكن الزجل يطلق على السوقى الدارج منهما، إذ لابد أن يكون فى اللغة الدارجة، فقد كان يتغنى به فى الطرقات](11)..ويلتفت بالنثيا إلى أن هذه السوقية الدارجة حرمت هذا الفن أن يحظى باهتمام المؤرخين المتعصبين للفصحى، يقول: [إذا ذكرنا الطابع الشعبى الدارج لهذا الفن الشعرى، لم نستغرب من أصحاب مجموعات النظم والنثر – وهم متعصبون للفصحى وآدابها- أن يأنفوا من أن يوردوا فى كتبهم نماذج منه، ولكن "خوليان ريبيرا" تمكن بفضل أبحاثه من العثور على ثروة حافلة من الأزجال وأصحابها](12).
وعن "ريبيرا" الذى عثر على هذه الثروة الحافلة من الأزجال ينقل بالنثيا قوله:
[ولكن أزجال ابن قزمان حفلت بذكر الرذائل الملازمة لروح العوام، وخلت من أى تحفظ أو احتشام، ومن ثم فإننا نجد فيها فحشا مخجلا وألفاظا مبتذلة، مما كانت تجرى به ألسنة أهل الأحياء المتطرفة من قرطبة](13).
وإلى هذا الحد لا نلحظ أكثر من إشارات يبديها بالنثيا وريبيرا، لكن هناك رأيا يمضى أبعد من هذا.
يقول الدكتور سليمان العطار:
[وبخصوص صورة الموشح ذى الخرجة العامية، فيشير إلى دور العامة المخرب فى الأندلس، فقد مارسوا دوراً فعالاً فى إشعال الفتن وإسقاط حكام والإتيان بحكام آخرين، إنه دور لم يدرس حتى الآن، لكن من يقرأ أحداث الأندلس يجد أن هذا الأمر كان خارجا عن نواميس العصور الوسطى، وبالتالى فإن ثقافتهم الشعبية قامت بغزو الثقافة الرسمية فى هذه البقعة منها: الموشح، ولقد قاوم الموشح المعرب بشكل مطرد هذا الغزو العامى فى العصر الغرناطى، حيث تكاد تختفى تماما الخرجة العامية، فالموشح المعرب محاولة لوقف دور العامة السياسى داخل العمل الأدبى انعكاسا لمغزى المقاومة الرسمية لذلك.. ومع هذا فإن الإيقاع ظل يحمى صدى هذا الدور حتى النهاية، لأن هذا الدور لم يتوقف قط، فغزا غزوا مظفرا من جديد فى شكل أدبى جديد هو الأزجال](14).
*
ويبدو أن هذا الذى يراه سليمان العطار كان قد خطر ببال مؤرخى الأندلس الذين ألفوا عن شعرائهم وأدبائهم، وها هو ابن بسام يعترف بجمال الموشح لكنه لا يورد منه شيئاً فى الذخيرة، وكان يترجم لأبى عبدالله محمد بن عبادة المعرف بابن القزاز، وكان ابن بسام يرى هذا الأديب الشاعر (من مشاهير الأدباء الشعراء، وأكثر مما اشتهر اسمه وحفظ نظمه فى أوزان الموشحات التى كثر استعمالها عند أهل الأندلس … وقد ذكرت فى هذا القسم من أخبار عبادة بن ماء السماء من برع فى هذه الأوزان من الشعراء، وهذا الرجل ابن القزاز ممن نسج على منوال ذلك الطراز ورقم ديباجه، ورصع تاجه، وكلامه نازل فى المديح، فأما ألفاظه فى هذه الأوزان من التوشيح فشاهدة له بالتبريز والشفوف .. وتلك الأعاريض خارجة عن غرض هذا التصنيف)(15).. فابن بسام يعترف بجمال تلك الأعاريض – الأوزان والقوافى- لكنه لا يذكرها فى هذا المصنف/ الذخيرة.
والموقف نفسه نلتقى به عند عبدالواحد المراكشى فى كتاب "المعجب"، حين يقول فى ترجمته لأبى بكر بن زهر:
(وأما الموشحات خاصة فهو الإمام المقدم فيها، وطريقته هى الغاية القصوى التى يجرى كل من بعده إليها، هو آخر المجيدين فى صناعتها، ولولا أن العادة لم تجر بإيراد الموشحات فى الكتب المجلدة المخلدة لأوردت بعض ما بقى على خاطرى من ذلك)(16).
لقد نسى المراكشى موشحات ابن زهر، وبقى منها فى خاطره بعض الموشحات، وكان يمكن أن يورد بعض هذا البعض إلا أن هناك مانعا، وهو أن الكتب المجلدة المخلدة لم تجر عادتها بإيراد هذا الفن، والذى لا يورد الموشح المعرب لا ينتظر منه أن يورد زجلا.
لقد تعرض الدكتور الطاهر مكى لهذين القولين عند ابن بسام وعبدالواحد المراكشى، يقول: [وأكاد أجزم أن الدوافع التى كانت وراء الموشحات هى التى أملت على ابن بسام تجاوزها، وهى دوافع تتصل بالصراع الخفى بين القوى المتنافسة على أرض الأندلس](17).
وهذا الصراع الخفى هو ما أشار إليه سليمان العطار فى حديثه عن الدور المخرب للعامة فى الأندلس.
*
(5)وعن بناء الزجل وموضوعه يقول "ليفى بروفنسال":
[ويمكن أن يعرف الزجل بأنه قصيدة ذات قطع قد تقل وقد تكثر، والقطعة تتألف من ثلاثة أبيات مصرعة فيما بينها، وبيت رابع مصرع مع السمط والمركز، والمطلع ينبئ عادة عن موضوع القصيدة بشكل عام](18).
ويضيف: [وكل زجل من أزجال ابن قزمان يحوى قسمين مميزين:
الأول: مطلع يشتمل على دعابة أو عتاب أو تشبيب، وفيه مشابه كثيرة فى صوره ومعانيه من نسيب القصائد القديمة.
ثم القسم الثانى: وهو أقرب إلى إلهام الواقع](19).
وعن لغة المديح فى الأزجال يقول: [ثم يأتى ذكر الممدوح، ويردد الشاعر هنا المعانى القديمة المألوفة، فتبدو ثقيلة إلى جانب الخفة الصافية التى امتاز بها صدر الزجل](20). ويلتفت بروفنسال إلى ما يسميه المعانى الجليلة عند ابن قزمان، يقول: [ولابن قزمان سلسلة أخرى من القصائد فى الوصف جزيلة المعنى جرى بها لسانه الطلق استجداء لبعض قطع من ذهب، …، …، وهو فى مثل هذه القصائد شاعر مرتزق بمعنى الكلمة، يتمثل فيه الجشع والحاجة الملحة للمال، ولكن فيض أخيلته وقوة شاعريته توقعه على معان جليلة يسوقها فى صناعة رائعة](21).
*
وعن الجمهور وبناء الزجل يقول "بالنثيا":
[ويكون المركز عادة مما يثير انتباه السامعين، ويجذب أسماع الجماهير حتى يصغوا إلى الأغنية وهم راغبون، ويجئ غزلا، أو دعوة إلى الشراب مثل قول ابن قزمان:
أياما ملاح، شرط الخلاعة


خزيت أم الذى يعمل صناعة
وقوله فى زجل آخر:
نعطى ثيابى وننفق مالى


فالشراب البالى
وعن الزجل كله: بناء وموضوعا يقول: (ويسمى ابن قزمان الجزء الأولى من كل زجل: "التغزل"، وهو مطلع الزجل الذى يومئ إلى موضوعاته، ولابد أن يكون فى أمر عام أو تقليدى، وينبغى أن يصاغ فى قالب سهل خفيف فكه، ويغلب أن يكون موضوعا جنسياً أو خمريا أو سخرية من المجتمع، ولا يجئ جارحاً ولا مثيرا، إنما مبتذلا ولا تحفظ فيه، …، …، …، … .
أما القسم الثانى من الزجل وهو المسمى بالمديح، فيتغنى فيه ابن قزمان بفضائل من يهدى إليه الزجل، ثم يختمه بطلب معروف أو عطاء](23).
*
(6)أما عن ابن قزمان وفلسفته فى الحياة فيقول الدكتور الأهوانى:
[ليس لابن قزمان فلسفة فى الحياة إلا اللهو وما يستلزمه من شراب وعشق، وليس للدنيا بعد ذلك قيمة ولا للحياة نفع:
1- دنيا هى كما تراها


فاجتهد واربح زمانك
2- كل يوم .. وكل ليلة


لا تخلى مهرجانك
3- واشتفى عليه من قبل


ان يجئ الموت فى شانك

4- لس ذى عند مصيبة


أن تموت والدنيا حى ]
يقول ابن قزمان:
ها هى الدنيا كما تعرفها، لا يدوم صفاؤها، فاجتهد واغتنم حياتك فى النعيم، إياك أن تخلى مجالس المتعة ليلاً أو نهاراً، خذ حقك من هذا العمر قبل أن يأتى الموت فجأة، إنها مصيبة حقا – أليس كذلك – أن تموت والحياة من حولك صاخبة ..
ويضيف الدكتور الأهوانى: [وإنا لنحاول أن نلتمس عند ابن قزمان شيئاً آخر، وهما فى الحياة غير اللهو، فلا نكاد نجد إلا صورا باهتة لا تحمل وراءها شيئا من حماسة أو إخلاص حقيقى، فلقد مدح بعض المرابطين لنصر حربى على النصارى، وقد نظم زجلا فى حركة جهاد دينى، ومدح بعض الحكام بالعدل والإنصاف، لكن ذلك جميعاً لا يكفى للدلالة على أنه قاسم الناس فى الحياة العامة همومهم، أو فى المشاكل الخطيرة التى كانت تحيط بوطنه)(25).
ويجمل الدكتور الأهوانى رأيه قائلاً:
(ولا نعرف فى الأدب العربى كله ديوانا عبر عن صاحبه كما عبر هذا الديوان، …، وليست قيمة الديوان فى أنه مستند لحياة الرجل فقط، بل أن فيه ما يبرر أن يجعل القدماء من ابن قزمان "إمام الزجالين"، فقد كان ابن قزمان شاعرا حى الأسلوب، فطنا بخفايا النفوس، عبقريا إذا قيس بغيره من الزجالين](26).
*
كانت هذه وقفة مع أهم شكل شعرى جديد: الأزجال والموشحات، وفى الصفحات التالية مجموعة من الأزجال والموشحات، أضعها بين يدى الطالب قبل أن أعرض عليه قصائد من الشعر الأندلسى، تلك القصائد التى هى مشرقية الشكل والموضوع.
*

قادم من بلاد الحياء .. شعر د . محمود عبدالحفيظ

لا تنام المدينة ..
لكنها - حين ينتصف الليل -
تخرج للبحر عارية
وأنا … ، … ، قادم من بلاد الحياء
من بلاد الفضيلة والعيب ..
لكننى رجل .. والرجال اشتهاء
*
قادم مفعم بالخجل
شارب لبن الخوف والعذبلة
حامل زمن القهر بين جوانحه قنبلة
*
كان يسمع أن الطيور إذا ارتفعت وقعت
والحرائق فى بدئها شرر …
هبت الريح فاندلعت
ليلة .. كان مستلقيا ..
فكرة نبعت :
لم لا يفتح النافذة ؟
*
المدينة فى الليل كامرأة الحلم ..
ناعمة .. مبهمة
يتهادى إلى عطرها الظل .. والضوء ..
والنسمة الملهمة
سل سيف اشتهاء القرى ..
وامتطى أدهمه
وانبرى يطفئ الشوق فى كل واد.
*
حين قال المؤذن :
" خير من النوم أن تذهبوا للصلاة "
كانت امرأة الحلم مذبوحة ..
والدماء تدلى من السقف ..
والشمس من ألف نافذة تسكب النور حولى ..
وأعمدة المسجد انطلقت هاربة
فجأة ..
تثقب الشمس جنية البحر ..
فانبثق الليل
والخوف
والأعين الخاربة

عالم غرائبى فى مرج الكحل

عالم غرائبى فى مرج الكحل قراءة فى متوالية قصصية لمنير عتيبة
بقلم محمود الديدامونى



منذ البداية يطالعنا الكاتب " منير عتيبة " بعالم سردى بديع بكل ما يحمله العالم من أمكنة وشخوص وأحداث وغرائب ، إننا فى هذا النص أمام مزيج بين اللامنطق والحس الواقعى ، حيث يعتمد الكاتب فى طريقة السرد على إبراز حكايات الجد والجدة باعتبارهما المنطلق لعالمه السردى ، وليس غريبا أن نجد تلك الرائحة لعالم ألف ليلة وليلة ، حيث ما قدمه منير هنا يقترب مع عوالم الواقعية السحرية ولمّ لا وقد مزج من وجهة نظرى بين الواقع والفانتازى بطريقة أعجبتنى شخصيا وجعلتنى احلق مع جده وجدته وعالم الحكايا التى قد تبدو متأثرة بالحكاية الشعبية المبنية على الخرافة ، كما هو واقع الحال فى القرية المصرية ، وما عرفناه من حكايات النداهة والعلاقة المتناثرة فى تلك الحكايا بين الإنس والجن وحالات الشد والجذب بين النوعين فى تأثير كل طرف على الآخر ..
يبدا الكاتب متواليته القصصية " مرج الكحل " بوصف يتواءم مع وصف العامة للشخصيات الشعبية أو التعامل مع الخرافة والأسطورة فيما يتعلق بالنداهة وما ترسخ فى الذهن الشعبى العام من تأثير الجن على الإنسان ، وما يستتبع ذلك من رؤى وأفكار وخيالات تصل إلى حد الخرافة ، وبالطبع فإن هذه المنطقة ثرية جدا فى تراثنا الشعبى وعندما يكون افتتاح السرد فى هذه المتوالية بالفعل " كان " فهو يضعنا حتما على أعتاب مرحلة سابقة على زمن الحكى ، يستتبعها ارتباط بين الزمن المحكى والزمن الحاضر ، يدعو المتلقى لعقد علاقات اتصال أو الالتفات إلى الحدث الذى يأتى بعد الفعل " كان " يقول : " كان جدى شابا مختلفا ، لكنه .. كان مجنونا أيضا " ص7 ، يضعنا الكاتب منذ البداية فى حالة استنفار لمعرفة سبب جنون الجد وكيف يكون الراوى الحفيد بهذا التطاول اللحظى الذى قد يتبادر إلى ذهن المتلقى ولو للحظات ، ليقع المتلقى على حقيقة أن الجنون كان فى الفعل وباعتباره امتداحا لخروجه عن المألوف ،وليس الجنون فى التركيبة النفسية للشخصية .ويستمر القاص فى ضرب الأمثلة على صعوبة الأمر الذى انتواه جده بل وقدم على فعله من الذهاب إلى موردة - إسماعيل الجنايني – فى عز القيلولة ليصطاد ، وهذا أيضا ما ارتبط بالذهن الشعبى فى الريف المصري بحتمية العلاقة بين القيلولة وظهور الجن وتأثيره على البشر ... إننا بصدد واقع محكى .. لعالم غرائبي نتناقله جيل بعد جيل ..
ثم يدخل بنا السارد إلى الحدث وطبيعة العلاقة بين الجد وبين ال" الجنيّة " . فيقول : " سمع جدى صوتا خافتا قادما من أعماق الترعة ، أخذ الصوت يعلو بالتدريج .. لم يكن الكلام مفهوما .. لكنه كان بكاء ساحرا يشبه الغناء " ص9 ... ويستمر القاص فى الضرب على وتر الخرافة الشعبية .. مستكملا ما بداه من علاقة الجد بالجنية ويضعنا السارد على نقطة مهمة وهى توافق وصف أهل القرية للجنية مع ما رآه الجد من جمال لتلك الجنية وكأنهم سبقوه بالرؤية لها ، أو أن هناك من سبقه برؤيتها فوصفها لهم .. الاختلاف كان فى تفسير اللوحة / وجه الجنية – كيف قرأه الجد وكيف قرأه الذى سبقه ، فيقول : " كانت جميلة كما وصفها أهل القرية .. لكن الجمال لم يكن كل شيء .. فى عينيها الواسعتين كان يرقد حزن العالم ، ودمعة معلقة تشعر بها ولا تراها " .. ثم يصبح الأمر له معطياته المادية بالنسبة له وتصبح مساحة الاختلاف- بين وصف الأهل والناس وبين ما سمعه منها - واسعة ، فيقول : " كانت تناديه ليقبل ..لم تكن تعده بالنعيم والكنوز كما حكى أهل القرية .. بل كانت تستنجد به .."
من خلال الخرافة الشعبية يرسم لنا القاص لوحة فنية عالية الحبك تمتلك كل مقومات الانفعال بها والتعايش مع أحداثها وشخوصها ، وتساؤلاتها فيقول : " كان كلّما مزّق قطعة فى الحجاب حدث تغير فى النداهة .. كانت زعانفها تتحول إلى أرجل بشرية .. وفمها يحاول أن ينفتح ليقول شيئا .. وعندما انتهى من تمزيق الحجاب تماما .. صرخت الندّاهة .. " الحقونى " .. وغطّت صدرها العاري بيديها ...
ومع قصة ( قبلة العفريت ) نجد ظهورا لشخصية الجدة ، كأن القاص يريد أن يقدم لنا رؤية واحدية للماضى من خلال اللجوء للحكى النابع من معطيات الماضى وشخصياته الجد / الجدة .. هو يحيلنا إلى موروثنا الشعبى بما يملكه من سعة فى الخيال ، مع منطقة هذا الخيال وتلك الخرافة لتصبح واقعا مشوِّقا يدفعنا للمكوث أمامه طويلا ، وعلاقة هذا الحكى بالواقع .. ولماذا نتفاعل معه.. هل لتوافقه مع معطيات الواقع المعاش ؟ .. و لعل السؤال الأكثر أهمية هو عن الكيفية .. كيفية التوافق بين الزمن المحكى والزمن الحاضر ... فيقول : " أخبرتنى جدتى أن قبلة العفريت تحكَّمت فى مجرى حياتها " ص17 ، وهنا نلاحظ قدرات القاص فى استخدام الجمل القصيرة التى يستتتح بها سرده ونصه القصصي ، تضعنا دائما على أدوات فنية عالية حيث يستطيع أن يجذب المتلقى ، تلك الجدة التى لاتعرف الخوف تواجه ما واجهه الجد نفسه .. فيقول : " رأت شجرة توت مضيئة على بعد أمتار منها " .. ويستمر القاص فى رسم تلك اللوحات الفنية فيقول : " وفجأة تحول القنديل إلى شاب جميل الصورة " ص18 مع حوار يدور بين الجدة وبين العفريت الذى يقوم بتوضيح معاناته لتلك البنت الريفية العذراء والمتمسكة بقيمها وتقاليدها وبتراثها الذى تربت عليه ، وبشرحه هذا يضعها على أعتاب صراع داخلى يأخذها طويلا ويجعلها فى شد وجذب بين اللين والرفض .. بين القيم والوازع الإنسانى فى مساعدة الآخر ... ذلك الكائن الذى لا تعرفه ..لكنه التعاطف .. تسرب إليها ، فقط ما يؤخذ هنا على السرد عندما قال : " فكرت جدتى قليلا .. " لو كان كذلك لتهاوت معطيات الشخصية التى حددت منذ البداية ، تركت العفريت يقبلها ..من اجل إنقاذه من الموت ..لم تنكر أنها لا تزال تشعر بحلاوة تلك القبلة ، ومن ثم لا تباريها قبلات الزوجين اللذين تعاقبا عليها .. فكان طلاقها لمرتين ..
ثم يتوحد الأمر بين الجد والجدة فى نفس الإطار الأسطورى ويكون الراوى / الحفيد شاهدا لحالة التوحد تلك بين طرفى الماضى ، ربما ليكتشف الحاضر بما ينتظره من مستقبل أن التوحد ضرورى لاستكمال مسيرة الحياة .. وهى لاتخلو من رمزية عالية فيقول :
" معجزة ما هى التى جعلت الجميع لا يلاحظون اختفاء النخلتين النتعانقتين بعد رحيل جدتى بأسبوع واحد .. أصبحا نخلة واحدة تلقى على الأرض ظلا واحدا عند اكتمال القمر " ص27 .
وفى قصة ( مرج الكحل ) تتحول الخرافة إلى واقع ، وينعكس ذلك من خلال الدلالات الرمزية التى نستطيع أن نصل إليها من الربط بين الخرافة بكل ما تحمله من مفردات واحداث وبين ما يملكه الواقع المعاش ، فيقول : " أخبره صوت لا يدرى مصدره أن المرج موعود لشاب نحيف كعود القصب ، طويل كنخلة ، عاشق للخلاء ، وأن هذا الشاب من صلبه .. قال الجد عبدالكافى إنه رأى أهوالا فى العودة لا تقل عما رآه فى الذهاب ، لكنه تحملها ليوصل لابنه الرسالة .. " ص33 .
ماذا يمثل هذا المكان بالنسبة للجميع ، هو الملاذ وهو الذى يحمل العلاج لكل ما يواجهونه .. ربما يكون ذلك واضحا لنا فى الربط بين المكان / الخرافة والمكان / الواقع ويدور الحوار بين الجد / الماضى وبين الحفيد / الحاضر ويقدم الجد العلاج .. ويبقى الحفيد حائرا بمن يبدأ وكيف .. وهى المعضلة التى نواجهها اليوم ، يسوقها منير عتيبة على لسان الراوى / الحفيد .
وفى قصة ( ابنهما ) يسوق منير لوحة فنية عالية تخص اولئك الذين لم يرزقهم الله بنعمة الأبناء ، وكيف كانت اللحظة التى أخبرهما فيها الطبيب بوجود حمل ... كيف انطلقا سويا يتخيلان سيرة حياة كاملة لهذا الطفل مكانيا وزمانيا ، ثم يخرجان من تلك اللحظة الحاسمة إلى واقع أمر بأن الحمل كاذب ..فيقول : " وقف خالى شفيق لحظات يتأمل الطفل الجميل الذى أمامه .. لم يشأ يهنأ بالسعادة وحده .. ذهب ليوقظ زوجته لتأتى وترى الطفل ..".ويستمر" أقسم خالى شفيق أنه شعر بأعراض الحمل قبل أن تشعر بها زوجته نفسها .. قبلا الطفل وهما يخرجان لزيارة طبيبة أمراض النساء والدنيا لا تسع سعادتهما بتحقق الحلم ، بعد انتظار أكثر من عشر سنوات ..
قبلا الطفل مرة أخرى عندما عادا بقلوب حزينة ..أخذا الطفل لينام بينهما على السرير لأول مرة بعد أن عرفا أن أعراض الحمل كانت كاذبة .. قالت زوجة خالى ، لكن حبنا له صادق " .
المتوالية ثرية وتضعنا على أعتاب عالم له خصوصيته السردية وأماكنه وشخوصه الغنية بالتأويل والترميز والدلالة ..