الأحد، 2 أغسطس 2009

جديد الشعر الأندلسى بقلم د . محمود عبدالحفيظ


ما دام الشعر الأندلسى الخالص لم يظهر إلا مع القرن السادس الهجرى، وما دام الجديد قد تأخر إلى أن ظهر ابن خفاجة، فلنؤجل حديث الشعر – القصيدة – الآن، ولننظر فى جديد الشعر الأندلسى:
"الأزجــال والموشحــات"
ولسوف تطول – قليلا – هذه الفقرة، لأننى سأتحدث فيها عن "ابن قزمان.. والزجل":
(1)ابن قزمان هو إمام الزجالين بالأندلس كما يراه ابن سعيد الذى ينقل عن الحجارى أنه:
(كان فى أول شأنه مشتغلا بالنظم المعرب، فرأى نفسه تقصر عن أفراد عصره كابن خفاجة وغيره، فعمد إلى طريقة لا يمازجه فيها أحد، فصار إمام أهل الزجل المنظوم بكلام عامة الأندلس)(1)، وهذه عبارة مشهورة جداً عن ابن قزمان، وفيها مقابلة بين النظم المعرب، والنظم بكلام العامة، ويذكر ابن خفاجة ممثلا لقصيدة الفصحى التى لم يجد ابن قزمان نفسه قادراً على صنع شىء جديد أو لافت فيها.. (فعمد إلى طريقة لا يمازجه فيها أحد)، ومن هنا يبدأ الحديث عن الزجل مقترنا بالعامة والعامية، فى مقابل شعر الصفوة الذى هو منظوم بالفصحى المعربة.
ويرى ابن الخطيب – فى الإحاطة – أن ابن قزمان: [نسيج وحده أدباً وظرفا ولوذعية وشهرة: قال ابن عبدالملك: كان أديبا بارعا محسنا حلو الكلام، مليح التندير، مبرزاً فى نظم الطريقة الهزلية بلسان عوام الأندلس، الملقب بالزجل:
قلت: وهذه الطريقة بديعة يتحكم فيها ألقاب البديع، وتنفسح لكثير مما يضيق سلوكه على الشاعر، وبلغ فيها أبوبكر مبلغا حجره الله عن سواه، فهو آيتها المعجزة، وحجتها البالغة، وفارسها العلم، والمبتدى فيها والمتمم- رحمه الله](2).
وهنا تدخل كلمة أخرى: "الطريقة الهزلية"، ويذكر ابن الخطيب: عوام الأندلس، لكن ابن الخطيب يلتفت إلى أن هذه الطريقة: تنفسح لكثير مما يضيق سلوكه على الشاعر، وهو يقصد بالشاعر هنا "ناظم الفصحى".. كما يشير إلى أن الزجل يتعاطى هو أيضاً فنون البديع. ولعل عبارة: (وبلغ فيها أبوبكر مبلغاً حجره الله عن سواه) هى نفسها عبارة (فعمد إلى طريقة لا يمازجه فيها أحد) عند ابن سعيد.
*
(2)على أن ابن خلدون يقدم الرجل وفنه فى عبارة أطول، ولعله يذكر أشياء أكثر، يقول:
(ولما شاع فن الموشح فى أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه؛ نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا فى طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعرابا، واستحدثوه فنا سموه "بالزجل"، والتزموا النظم فيه على مناحيهم إلى هذا العهد، فجاءوا فيه بالغرائب، واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة.
وأول من أبدع فى هذه الطريقة الزجلية أبوبكر بن قزمان، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس؛ لكن لم يظهر حلاها ولا انسكبت معانيها واشتهرت رشاقتها إلا فى زمانه وكان لعهد الملثمين، وهو إمام الزجالين على الإطلاق، قال ابن سعيد: رأيت أزجاله مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب، قال: وسمعت أبا الحسن ابن جحدر الإشبيلى إمام الزجالين فى عصرنا يقول: ما وقع لأحد من أئمة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة)(3)..ها هى البلاغة يتسع لها مجال فى الزجل، وها هى لغة العجم تدخل إليه، ولقد كانت البداية مع الموشح؛ ثم نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله الذى هو مخالف لشكل القصيدة.
*
ويقول ليفى بروفنسال: [إنما سلكت الأندلس طريقها الذى هيئت له حين اخترعت الزجل بلغة عامية عربية إسبانية، وحين خلقت ما يقابله فى العربية الفصحى وهو الموشحات، فجرى عندئذ دم جديد فى عروقها الشعرية بعد أن كادت تتجمد، ولم تتردد الأندلس فى التحرر من كثير من قواعد العروض الصارمة العاتية، ومن موجبات القافية والتزام قافية واحدة فى كل القصيدة، كما يتحرر الإنسان من الأغلال.
ولقد كانت هذه الأغلال إلى ذلك العهد مقبولة، ولكن الأندلس لم تستطع أن تبذ فيها أساتذة المشرق، وهكذا نشأ شعر مجدد إسبانى بحت، وتسربت إليه اللغة الرومانثية التى أصبحت لغة كثير من المسلمين، فجاورت العربية الإسبانية، وكان ممثل هذا الشعر أمير شعرائنا الأندلسى أبوبكر بن قزمان](4).
أما إميلو جارثيا جومث فيراه قمة شعرية وعبقرية مفاجئة، يقول: [إن ابن قزمان يمثل إحدى القمم الشعرية فى تاريخ الأدب فى العصور الوسطى كلها، ففى هذه الأزجال التى خلفها لنا من النضارة المتوهجة والفكاهة الساخرة، والرقة اللعوب، والطرافة المدهشة ما يستحوذ على إعجابنا بذلك الصوت الفريد الذى استطاع أن يبتعد عن تلك الموضوعات والأساليب المطروقة المتكررة فى الشعر العربى. وتتأكد هذه الصفة إذا قارنا بينه وبين شعراء عصره، الذين كانوا يتكلفون النظم فى بحور الشعر التقليدية، بل كذلك بينه وبين شعراء التوشيح الذين تحولت الموشحة على أيديهم إلى فن كاد يستهلك طاقاته.
وإذا وضعنا ابن قزمان فى إطار العصر الذى قدر له أن يعيش فيه، ومدى التناقض بينه وبين ذلك العصر الذى كاد الشعر ينحسر فيه، ازداد إعجابنا بهذه العبقرية المفاجئة التى استطاعت أن تقدم لنا فنا جديراً بأن يحمل صفة الأندلس بكل جدارة](5).
*
(3)ويرى الدكتور إحسان عباس أن ميزة ابن قزمان الكبرى: [تكمن فى قدرته على النقل الواقعى والتصوير التحليلى الدقيق، وإدخال الحركة القصصية فى أزجاله، وتمثيله الصوتى فى المواقف الدرامية، وظرفه فى معالجة موضوعه حين يسف فى الكدية أو يفحش فى القصص](6).
ويرى الدكتور أحمد هيكل أن الزجل عموما- كأى فن شعبى-: [يعبر عن روح الشعب الأندلسى ويعكس طابعه النفسى والسلوكى الخالص، البعيد عن الرسميات والتقليديات والمواضعات التى يعكسها الشعر الفصيح](7)..ويمضى بنا المرحوم "أحمد أمين" إلى جمهور الزجل فى معرض حديثه عن ابن قزمان، يقول:
[هو شاعر من نوع آخر: لئن كان الذين سبقوا شعروا لخلفاء وأمراء ووزراء وعلماء، أو شعروا لأنفسهم من غزل ونسيب ونحو ذلك، فابن قزمان شعر للشعب، وقد رأى أن يطرب الناس بالزجل والموشحات، فقال فى ذلك شعرا وجال به فى الآفاق؛ فنراه فى إشبيلية وقرطبة وبلنسية وغير ذلك من البلاد، ويظهر أنه كان من صميم الشعب](8).
ويسلمنا حديث أحمد أمين عن "الشعب والتجوال"، إلى ما يراه الطاهر مكى خاصا بالزجل فى لغته وإنشاده والتجول به، فيقول: (كان مسلمو الأندلس- فى جملتهم الغالبة- من العناصر التى لقيها الفاتحون المسلمون فى شبه الجزيرة، ومع استقرار هؤلاء انتشرت لغتهم، وساد دينهم، وأخذ السكان يتكلمون فى حياتهم اليومية لغة: هى خليط من العربية والرومانثية، ولقد ابتدع الزجل فى قرطبة فى أواخر القرن التاسع الميلادى وأول العاشر، ليواجه هذه الظاهرة، ويرضى الفهم الجمالى عند المتحدثين بها، ممن لا يفهمون العربية الفصحى، ولا الرومانثية الخالصة، ولا اللاتينية المتحجرة.
وإذا كان ديوان ابن قزمان أحسن مثل لهذه الظاهرة فى اللغة العربية، حيث تتناثر الكلمات الرومانثية بكثرة وسط الكلمات العربية، فثمة أشعار رومانثية أيضاً لشعراء جوالين مسيحيين جاءت على هذا النحو؛ حيث تتناثر الكلمات العربية وسط الكلمات الرومانثية، وكانت مفهومة لأى أندلسى حتى ولو كان مسيحياً شمالياً لا يقيم بين المسلمين)(9).
وإذن: لم تكن اللغة عائقاً أمام هذا الفن الجديد، وربما كانت اللغة المزدوجة عاملاً مساعداً فى ابتداع هذا الفن ليواجه هذه الظاهرة اللغوية المزدوجة، وسيجد ابن قزمان والزجالون جمهوراً يسمع ويفهم ويطرب فى كل بلد.
*
وعن ابن قزمان تحديداً يقول الطاهر مكى(
*):
[إلى حد بعيد يمكن اعتبار ابن قزمان المتوفى 1160م مثلاً للشاعر الجوال ، وأورد لنا المؤرخون نتفا من أشعاره، ووصلنا ديوان أزجاله كاملاً، وكان فى حياته الخاصة مثالا حياً للمسلم الأندلسى الأصيل، كان مرتفع القامة، اشقر الشعر، أزرق العينين، عربيداً متهتكا، غير كبير اعتداد بالدين والتقاليد، قليل الاستقرار والإقامة، كثير الرحلة من بلاط إلى بلاط، يربح عيشه من الحفلات خاصة أو عامة، يعيش من شعره، ويستهدى ممدوحيه وسامعيه: نبيذا أو ملابس أو دقيقا أو سكنا، أو جواهر لعشيقاته، أو حتى دراهم ليقص شعره، وهو إلى جانب أنه شاعر وزجال، صاحب نكتة ونادرة، جليس ومسامر، يستطيع أن ينثر البهجة ويبعث المرح بين من يسهرون معه أو يستمعون إليه، وهى خصائص الشاعر الجوال كما أومأنا إليه](10).
وبعد..
فقد أوردت فى هذه الفقرة بعض الآراء التى تحدثت عن الزجل لغة وجمهورا، لقد كان الزجل فنا جديداً مفاجئاً، وكان ابن قزمان إمام هذا الفن، ولعلنا أحسسنا تعاطفاً واضحاً مع الفن وإمامه الذى كان شيخ الصناعة – يا له من لقب- لكن هناك بعض الآراء الأخرى تمضى بنا فى اتجاه لابد من رصده وتأمله.
*
(4)يقول أنخل جنثالث بالنثيا:
[والزجل والموشحة فى واقع الأمر فن شعرى واحد، ولكن الزجل يطلق على السوقى الدارج منهما، إذ لابد أن يكون فى اللغة الدارجة، فقد كان يتغنى به فى الطرقات](11)..ويلتفت بالنثيا إلى أن هذه السوقية الدارجة حرمت هذا الفن أن يحظى باهتمام المؤرخين المتعصبين للفصحى، يقول: [إذا ذكرنا الطابع الشعبى الدارج لهذا الفن الشعرى، لم نستغرب من أصحاب مجموعات النظم والنثر – وهم متعصبون للفصحى وآدابها- أن يأنفوا من أن يوردوا فى كتبهم نماذج منه، ولكن "خوليان ريبيرا" تمكن بفضل أبحاثه من العثور على ثروة حافلة من الأزجال وأصحابها](12).
وعن "ريبيرا" الذى عثر على هذه الثروة الحافلة من الأزجال ينقل بالنثيا قوله:
[ولكن أزجال ابن قزمان حفلت بذكر الرذائل الملازمة لروح العوام، وخلت من أى تحفظ أو احتشام، ومن ثم فإننا نجد فيها فحشا مخجلا وألفاظا مبتذلة، مما كانت تجرى به ألسنة أهل الأحياء المتطرفة من قرطبة](13).
وإلى هذا الحد لا نلحظ أكثر من إشارات يبديها بالنثيا وريبيرا، لكن هناك رأيا يمضى أبعد من هذا.
يقول الدكتور سليمان العطار:
[وبخصوص صورة الموشح ذى الخرجة العامية، فيشير إلى دور العامة المخرب فى الأندلس، فقد مارسوا دوراً فعالاً فى إشعال الفتن وإسقاط حكام والإتيان بحكام آخرين، إنه دور لم يدرس حتى الآن، لكن من يقرأ أحداث الأندلس يجد أن هذا الأمر كان خارجا عن نواميس العصور الوسطى، وبالتالى فإن ثقافتهم الشعبية قامت بغزو الثقافة الرسمية فى هذه البقعة منها: الموشح، ولقد قاوم الموشح المعرب بشكل مطرد هذا الغزو العامى فى العصر الغرناطى، حيث تكاد تختفى تماما الخرجة العامية، فالموشح المعرب محاولة لوقف دور العامة السياسى داخل العمل الأدبى انعكاسا لمغزى المقاومة الرسمية لذلك.. ومع هذا فإن الإيقاع ظل يحمى صدى هذا الدور حتى النهاية، لأن هذا الدور لم يتوقف قط، فغزا غزوا مظفرا من جديد فى شكل أدبى جديد هو الأزجال](14).
*
ويبدو أن هذا الذى يراه سليمان العطار كان قد خطر ببال مؤرخى الأندلس الذين ألفوا عن شعرائهم وأدبائهم، وها هو ابن بسام يعترف بجمال الموشح لكنه لا يورد منه شيئاً فى الذخيرة، وكان يترجم لأبى عبدالله محمد بن عبادة المعرف بابن القزاز، وكان ابن بسام يرى هذا الأديب الشاعر (من مشاهير الأدباء الشعراء، وأكثر مما اشتهر اسمه وحفظ نظمه فى أوزان الموشحات التى كثر استعمالها عند أهل الأندلس … وقد ذكرت فى هذا القسم من أخبار عبادة بن ماء السماء من برع فى هذه الأوزان من الشعراء، وهذا الرجل ابن القزاز ممن نسج على منوال ذلك الطراز ورقم ديباجه، ورصع تاجه، وكلامه نازل فى المديح، فأما ألفاظه فى هذه الأوزان من التوشيح فشاهدة له بالتبريز والشفوف .. وتلك الأعاريض خارجة عن غرض هذا التصنيف)(15).. فابن بسام يعترف بجمال تلك الأعاريض – الأوزان والقوافى- لكنه لا يذكرها فى هذا المصنف/ الذخيرة.
والموقف نفسه نلتقى به عند عبدالواحد المراكشى فى كتاب "المعجب"، حين يقول فى ترجمته لأبى بكر بن زهر:
(وأما الموشحات خاصة فهو الإمام المقدم فيها، وطريقته هى الغاية القصوى التى يجرى كل من بعده إليها، هو آخر المجيدين فى صناعتها، ولولا أن العادة لم تجر بإيراد الموشحات فى الكتب المجلدة المخلدة لأوردت بعض ما بقى على خاطرى من ذلك)(16).
لقد نسى المراكشى موشحات ابن زهر، وبقى منها فى خاطره بعض الموشحات، وكان يمكن أن يورد بعض هذا البعض إلا أن هناك مانعا، وهو أن الكتب المجلدة المخلدة لم تجر عادتها بإيراد هذا الفن، والذى لا يورد الموشح المعرب لا ينتظر منه أن يورد زجلا.
لقد تعرض الدكتور الطاهر مكى لهذين القولين عند ابن بسام وعبدالواحد المراكشى، يقول: [وأكاد أجزم أن الدوافع التى كانت وراء الموشحات هى التى أملت على ابن بسام تجاوزها، وهى دوافع تتصل بالصراع الخفى بين القوى المتنافسة على أرض الأندلس](17).
وهذا الصراع الخفى هو ما أشار إليه سليمان العطار فى حديثه عن الدور المخرب للعامة فى الأندلس.
*
(5)وعن بناء الزجل وموضوعه يقول "ليفى بروفنسال":
[ويمكن أن يعرف الزجل بأنه قصيدة ذات قطع قد تقل وقد تكثر، والقطعة تتألف من ثلاثة أبيات مصرعة فيما بينها، وبيت رابع مصرع مع السمط والمركز، والمطلع ينبئ عادة عن موضوع القصيدة بشكل عام](18).
ويضيف: [وكل زجل من أزجال ابن قزمان يحوى قسمين مميزين:
الأول: مطلع يشتمل على دعابة أو عتاب أو تشبيب، وفيه مشابه كثيرة فى صوره ومعانيه من نسيب القصائد القديمة.
ثم القسم الثانى: وهو أقرب إلى إلهام الواقع](19).
وعن لغة المديح فى الأزجال يقول: [ثم يأتى ذكر الممدوح، ويردد الشاعر هنا المعانى القديمة المألوفة، فتبدو ثقيلة إلى جانب الخفة الصافية التى امتاز بها صدر الزجل](20). ويلتفت بروفنسال إلى ما يسميه المعانى الجليلة عند ابن قزمان، يقول: [ولابن قزمان سلسلة أخرى من القصائد فى الوصف جزيلة المعنى جرى بها لسانه الطلق استجداء لبعض قطع من ذهب، …، …، وهو فى مثل هذه القصائد شاعر مرتزق بمعنى الكلمة، يتمثل فيه الجشع والحاجة الملحة للمال، ولكن فيض أخيلته وقوة شاعريته توقعه على معان جليلة يسوقها فى صناعة رائعة](21).
*
وعن الجمهور وبناء الزجل يقول "بالنثيا":
[ويكون المركز عادة مما يثير انتباه السامعين، ويجذب أسماع الجماهير حتى يصغوا إلى الأغنية وهم راغبون، ويجئ غزلا، أو دعوة إلى الشراب مثل قول ابن قزمان:
أياما ملاح، شرط الخلاعة


خزيت أم الذى يعمل صناعة
وقوله فى زجل آخر:
نعطى ثيابى وننفق مالى


فالشراب البالى
وعن الزجل كله: بناء وموضوعا يقول: (ويسمى ابن قزمان الجزء الأولى من كل زجل: "التغزل"، وهو مطلع الزجل الذى يومئ إلى موضوعاته، ولابد أن يكون فى أمر عام أو تقليدى، وينبغى أن يصاغ فى قالب سهل خفيف فكه، ويغلب أن يكون موضوعا جنسياً أو خمريا أو سخرية من المجتمع، ولا يجئ جارحاً ولا مثيرا، إنما مبتذلا ولا تحفظ فيه، …، …، …، … .
أما القسم الثانى من الزجل وهو المسمى بالمديح، فيتغنى فيه ابن قزمان بفضائل من يهدى إليه الزجل، ثم يختمه بطلب معروف أو عطاء](23).
*
(6)أما عن ابن قزمان وفلسفته فى الحياة فيقول الدكتور الأهوانى:
[ليس لابن قزمان فلسفة فى الحياة إلا اللهو وما يستلزمه من شراب وعشق، وليس للدنيا بعد ذلك قيمة ولا للحياة نفع:
1- دنيا هى كما تراها


فاجتهد واربح زمانك
2- كل يوم .. وكل ليلة


لا تخلى مهرجانك
3- واشتفى عليه من قبل


ان يجئ الموت فى شانك

4- لس ذى عند مصيبة


أن تموت والدنيا حى ]
يقول ابن قزمان:
ها هى الدنيا كما تعرفها، لا يدوم صفاؤها، فاجتهد واغتنم حياتك فى النعيم، إياك أن تخلى مجالس المتعة ليلاً أو نهاراً، خذ حقك من هذا العمر قبل أن يأتى الموت فجأة، إنها مصيبة حقا – أليس كذلك – أن تموت والحياة من حولك صاخبة ..
ويضيف الدكتور الأهوانى: [وإنا لنحاول أن نلتمس عند ابن قزمان شيئاً آخر، وهما فى الحياة غير اللهو، فلا نكاد نجد إلا صورا باهتة لا تحمل وراءها شيئا من حماسة أو إخلاص حقيقى، فلقد مدح بعض المرابطين لنصر حربى على النصارى، وقد نظم زجلا فى حركة جهاد دينى، ومدح بعض الحكام بالعدل والإنصاف، لكن ذلك جميعاً لا يكفى للدلالة على أنه قاسم الناس فى الحياة العامة همومهم، أو فى المشاكل الخطيرة التى كانت تحيط بوطنه)(25).
ويجمل الدكتور الأهوانى رأيه قائلاً:
(ولا نعرف فى الأدب العربى كله ديوانا عبر عن صاحبه كما عبر هذا الديوان، …، وليست قيمة الديوان فى أنه مستند لحياة الرجل فقط، بل أن فيه ما يبرر أن يجعل القدماء من ابن قزمان "إمام الزجالين"، فقد كان ابن قزمان شاعرا حى الأسلوب، فطنا بخفايا النفوس، عبقريا إذا قيس بغيره من الزجالين](26).
*
كانت هذه وقفة مع أهم شكل شعرى جديد: الأزجال والموشحات، وفى الصفحات التالية مجموعة من الأزجال والموشحات، أضعها بين يدى الطالب قبل أن أعرض عليه قصائد من الشعر الأندلسى، تلك القصائد التى هى مشرقية الشكل والموضوع.
*

ليست هناك تعليقات: