الأحد، 2 أغسطس 2009

عالم غرائبى فى مرج الكحل

عالم غرائبى فى مرج الكحل قراءة فى متوالية قصصية لمنير عتيبة
بقلم محمود الديدامونى



منذ البداية يطالعنا الكاتب " منير عتيبة " بعالم سردى بديع بكل ما يحمله العالم من أمكنة وشخوص وأحداث وغرائب ، إننا فى هذا النص أمام مزيج بين اللامنطق والحس الواقعى ، حيث يعتمد الكاتب فى طريقة السرد على إبراز حكايات الجد والجدة باعتبارهما المنطلق لعالمه السردى ، وليس غريبا أن نجد تلك الرائحة لعالم ألف ليلة وليلة ، حيث ما قدمه منير هنا يقترب مع عوالم الواقعية السحرية ولمّ لا وقد مزج من وجهة نظرى بين الواقع والفانتازى بطريقة أعجبتنى شخصيا وجعلتنى احلق مع جده وجدته وعالم الحكايا التى قد تبدو متأثرة بالحكاية الشعبية المبنية على الخرافة ، كما هو واقع الحال فى القرية المصرية ، وما عرفناه من حكايات النداهة والعلاقة المتناثرة فى تلك الحكايا بين الإنس والجن وحالات الشد والجذب بين النوعين فى تأثير كل طرف على الآخر ..
يبدا الكاتب متواليته القصصية " مرج الكحل " بوصف يتواءم مع وصف العامة للشخصيات الشعبية أو التعامل مع الخرافة والأسطورة فيما يتعلق بالنداهة وما ترسخ فى الذهن الشعبى العام من تأثير الجن على الإنسان ، وما يستتبع ذلك من رؤى وأفكار وخيالات تصل إلى حد الخرافة ، وبالطبع فإن هذه المنطقة ثرية جدا فى تراثنا الشعبى وعندما يكون افتتاح السرد فى هذه المتوالية بالفعل " كان " فهو يضعنا حتما على أعتاب مرحلة سابقة على زمن الحكى ، يستتبعها ارتباط بين الزمن المحكى والزمن الحاضر ، يدعو المتلقى لعقد علاقات اتصال أو الالتفات إلى الحدث الذى يأتى بعد الفعل " كان " يقول : " كان جدى شابا مختلفا ، لكنه .. كان مجنونا أيضا " ص7 ، يضعنا الكاتب منذ البداية فى حالة استنفار لمعرفة سبب جنون الجد وكيف يكون الراوى الحفيد بهذا التطاول اللحظى الذى قد يتبادر إلى ذهن المتلقى ولو للحظات ، ليقع المتلقى على حقيقة أن الجنون كان فى الفعل وباعتباره امتداحا لخروجه عن المألوف ،وليس الجنون فى التركيبة النفسية للشخصية .ويستمر القاص فى ضرب الأمثلة على صعوبة الأمر الذى انتواه جده بل وقدم على فعله من الذهاب إلى موردة - إسماعيل الجنايني – فى عز القيلولة ليصطاد ، وهذا أيضا ما ارتبط بالذهن الشعبى فى الريف المصري بحتمية العلاقة بين القيلولة وظهور الجن وتأثيره على البشر ... إننا بصدد واقع محكى .. لعالم غرائبي نتناقله جيل بعد جيل ..
ثم يدخل بنا السارد إلى الحدث وطبيعة العلاقة بين الجد وبين ال" الجنيّة " . فيقول : " سمع جدى صوتا خافتا قادما من أعماق الترعة ، أخذ الصوت يعلو بالتدريج .. لم يكن الكلام مفهوما .. لكنه كان بكاء ساحرا يشبه الغناء " ص9 ... ويستمر القاص فى الضرب على وتر الخرافة الشعبية .. مستكملا ما بداه من علاقة الجد بالجنية ويضعنا السارد على نقطة مهمة وهى توافق وصف أهل القرية للجنية مع ما رآه الجد من جمال لتلك الجنية وكأنهم سبقوه بالرؤية لها ، أو أن هناك من سبقه برؤيتها فوصفها لهم .. الاختلاف كان فى تفسير اللوحة / وجه الجنية – كيف قرأه الجد وكيف قرأه الذى سبقه ، فيقول : " كانت جميلة كما وصفها أهل القرية .. لكن الجمال لم يكن كل شيء .. فى عينيها الواسعتين كان يرقد حزن العالم ، ودمعة معلقة تشعر بها ولا تراها " .. ثم يصبح الأمر له معطياته المادية بالنسبة له وتصبح مساحة الاختلاف- بين وصف الأهل والناس وبين ما سمعه منها - واسعة ، فيقول : " كانت تناديه ليقبل ..لم تكن تعده بالنعيم والكنوز كما حكى أهل القرية .. بل كانت تستنجد به .."
من خلال الخرافة الشعبية يرسم لنا القاص لوحة فنية عالية الحبك تمتلك كل مقومات الانفعال بها والتعايش مع أحداثها وشخوصها ، وتساؤلاتها فيقول : " كان كلّما مزّق قطعة فى الحجاب حدث تغير فى النداهة .. كانت زعانفها تتحول إلى أرجل بشرية .. وفمها يحاول أن ينفتح ليقول شيئا .. وعندما انتهى من تمزيق الحجاب تماما .. صرخت الندّاهة .. " الحقونى " .. وغطّت صدرها العاري بيديها ...
ومع قصة ( قبلة العفريت ) نجد ظهورا لشخصية الجدة ، كأن القاص يريد أن يقدم لنا رؤية واحدية للماضى من خلال اللجوء للحكى النابع من معطيات الماضى وشخصياته الجد / الجدة .. هو يحيلنا إلى موروثنا الشعبى بما يملكه من سعة فى الخيال ، مع منطقة هذا الخيال وتلك الخرافة لتصبح واقعا مشوِّقا يدفعنا للمكوث أمامه طويلا ، وعلاقة هذا الحكى بالواقع .. ولماذا نتفاعل معه.. هل لتوافقه مع معطيات الواقع المعاش ؟ .. و لعل السؤال الأكثر أهمية هو عن الكيفية .. كيفية التوافق بين الزمن المحكى والزمن الحاضر ... فيقول : " أخبرتنى جدتى أن قبلة العفريت تحكَّمت فى مجرى حياتها " ص17 ، وهنا نلاحظ قدرات القاص فى استخدام الجمل القصيرة التى يستتتح بها سرده ونصه القصصي ، تضعنا دائما على أدوات فنية عالية حيث يستطيع أن يجذب المتلقى ، تلك الجدة التى لاتعرف الخوف تواجه ما واجهه الجد نفسه .. فيقول : " رأت شجرة توت مضيئة على بعد أمتار منها " .. ويستمر القاص فى رسم تلك اللوحات الفنية فيقول : " وفجأة تحول القنديل إلى شاب جميل الصورة " ص18 مع حوار يدور بين الجدة وبين العفريت الذى يقوم بتوضيح معاناته لتلك البنت الريفية العذراء والمتمسكة بقيمها وتقاليدها وبتراثها الذى تربت عليه ، وبشرحه هذا يضعها على أعتاب صراع داخلى يأخذها طويلا ويجعلها فى شد وجذب بين اللين والرفض .. بين القيم والوازع الإنسانى فى مساعدة الآخر ... ذلك الكائن الذى لا تعرفه ..لكنه التعاطف .. تسرب إليها ، فقط ما يؤخذ هنا على السرد عندما قال : " فكرت جدتى قليلا .. " لو كان كذلك لتهاوت معطيات الشخصية التى حددت منذ البداية ، تركت العفريت يقبلها ..من اجل إنقاذه من الموت ..لم تنكر أنها لا تزال تشعر بحلاوة تلك القبلة ، ومن ثم لا تباريها قبلات الزوجين اللذين تعاقبا عليها .. فكان طلاقها لمرتين ..
ثم يتوحد الأمر بين الجد والجدة فى نفس الإطار الأسطورى ويكون الراوى / الحفيد شاهدا لحالة التوحد تلك بين طرفى الماضى ، ربما ليكتشف الحاضر بما ينتظره من مستقبل أن التوحد ضرورى لاستكمال مسيرة الحياة .. وهى لاتخلو من رمزية عالية فيقول :
" معجزة ما هى التى جعلت الجميع لا يلاحظون اختفاء النخلتين النتعانقتين بعد رحيل جدتى بأسبوع واحد .. أصبحا نخلة واحدة تلقى على الأرض ظلا واحدا عند اكتمال القمر " ص27 .
وفى قصة ( مرج الكحل ) تتحول الخرافة إلى واقع ، وينعكس ذلك من خلال الدلالات الرمزية التى نستطيع أن نصل إليها من الربط بين الخرافة بكل ما تحمله من مفردات واحداث وبين ما يملكه الواقع المعاش ، فيقول : " أخبره صوت لا يدرى مصدره أن المرج موعود لشاب نحيف كعود القصب ، طويل كنخلة ، عاشق للخلاء ، وأن هذا الشاب من صلبه .. قال الجد عبدالكافى إنه رأى أهوالا فى العودة لا تقل عما رآه فى الذهاب ، لكنه تحملها ليوصل لابنه الرسالة .. " ص33 .
ماذا يمثل هذا المكان بالنسبة للجميع ، هو الملاذ وهو الذى يحمل العلاج لكل ما يواجهونه .. ربما يكون ذلك واضحا لنا فى الربط بين المكان / الخرافة والمكان / الواقع ويدور الحوار بين الجد / الماضى وبين الحفيد / الحاضر ويقدم الجد العلاج .. ويبقى الحفيد حائرا بمن يبدأ وكيف .. وهى المعضلة التى نواجهها اليوم ، يسوقها منير عتيبة على لسان الراوى / الحفيد .
وفى قصة ( ابنهما ) يسوق منير لوحة فنية عالية تخص اولئك الذين لم يرزقهم الله بنعمة الأبناء ، وكيف كانت اللحظة التى أخبرهما فيها الطبيب بوجود حمل ... كيف انطلقا سويا يتخيلان سيرة حياة كاملة لهذا الطفل مكانيا وزمانيا ، ثم يخرجان من تلك اللحظة الحاسمة إلى واقع أمر بأن الحمل كاذب ..فيقول : " وقف خالى شفيق لحظات يتأمل الطفل الجميل الذى أمامه .. لم يشأ يهنأ بالسعادة وحده .. ذهب ليوقظ زوجته لتأتى وترى الطفل ..".ويستمر" أقسم خالى شفيق أنه شعر بأعراض الحمل قبل أن تشعر بها زوجته نفسها .. قبلا الطفل وهما يخرجان لزيارة طبيبة أمراض النساء والدنيا لا تسع سعادتهما بتحقق الحلم ، بعد انتظار أكثر من عشر سنوات ..
قبلا الطفل مرة أخرى عندما عادا بقلوب حزينة ..أخذا الطفل لينام بينهما على السرير لأول مرة بعد أن عرفا أن أعراض الحمل كانت كاذبة .. قالت زوجة خالى ، لكن حبنا له صادق " .
المتوالية ثرية وتضعنا على أعتاب عالم له خصوصيته السردية وأماكنه وشخوصه الغنية بالتأويل والترميز والدلالة ..

ليست هناك تعليقات: