الاثنين، 3 مارس 2008
الجمعة، 29 فبراير 2008
قراءة فى مجموعة أترانى أحيا حقا للناقد / صبري قنديل
- (أتراني أحيا حقاً ؟!) وبراءة الرؤية
.jpg)
من السيرة الذاتية الموجزة يتبين لنا أن اهتمامات الأديب " محمود الديداموني" تعدد في مجال الكتابة بين المسرح حيث نفذت لـه مسارح الثقافة الجماهيرية نصوصاً, وبين الشاعر حيث أصدر ديواناً بعنوان( الشمس تشهد والقمر) ثم القصة القصيرة والتي يبدو أنها تكاد تكون المرتكز الرئيسي لعالمه حيث صدرت له نماذج منها في كتابين مشتركين قبل أن تصدر له المجموعة المستقلة (أتراني أحيا حقاً؟!) ويبدو أن تعدد الاهتمامات عند " محمود الديداموني" يعكس ضوءاً صادقاً لما يسعى إليه خاصة في مجال القصة القصيرة والتي أدانت من خلال هذه المجموعة أنه يحمل هماً إنسانياً يقترب من أنفاس البشر لذلك كان حريصاً أن يرصد الكثير من القواسم المشتركة فيما بين هؤلاء البشر.
في القرية التي هو واحد من أبنائها وبين المدينة التي يستكمل معها تأملاته لصورة الوطن من خلال الحياة اليومية للإنسان المصري ومعاناته التي لا تتوقف في دروبها.
صحيح أن عالم القرية هو الغالب على فضاء المجموعة ربما لأن الطبيعة هي المنطلق الذي تقوم عليه بنية القصة إلى جانب حسه الشعري الذي يعكس عبر الخيال اللغوي أوصافاً تشف عن شاعرية مضمرة أطلت ابتداء من الإهداء قبل أن يتوغل فيه تجسيد درامية الحدث أو ترسم صورة حالمة تتعاطف مع توجهات الإنسان سواء تحققت أو أحبطت هذا التعاطف ظل في منطقة البراءة التي ترى دون أن تؤول في كثير من الأحيان أو تحيل إلى دلالات مثيرة مثلما جاء ذلك واضحاً في بعض القصص فمعظمها مثل( في مدارات الزمن) و( أتراني أحيا حقاً؟!) ,( شرك السطور) على سبيل المثال والتي أدانت أن الكاتب يعيها جيداً لكن ربما الأزمان المتفرقة التي كتبت فيها القصص هي التي أدانت ذلك بعدما اتجهت قدراته إلى النضوج الفني ولا تعني البراءة التي أشير إليها أن القصص محصورة في سطحية التناول لكن غالبيتها اكتفت بتقديم صورة ظاهرية تحمل الإشارات الصحفية كسؤال المجموعة ككل.
يعتمد الكاتب في أول قصص المجموعة(إحياء) على السرد الوصفي والحوار معاً والإيحاء هنا ممثلاً في ذلك الآخر الذي أحب امرأة متزوجة تلك التي أطلت بعينيها السوداوين وقد تجمد بصره عليها قبل أن يمضي في صراع مع نفسه حيث يطارده الأرق وهو يعبر عن أشواقه تجاهها لصاحبه.فالسرد الواصف للحركة والحوار يمضيان في نسق البراءة القصصية التي لا تخرج عن ظاهرية الحدث تاركة لها أن تعكس التأثير الجمالي المطلوب حسب الحالة دون أن يصحب ذلك تأويلاً دلالياً يتوغل إلى عمق النفس أو ما يحتويه فضاء النص.
فإذا كانت القصة قد دخلت في تفسيرات مباشرة في منطقة الحوار مثل – من العيب إكراه أحد على شئ لا يريده, الحب هو سعادة من تحب – حيث لن تنعكس تأثيرات هذه المفاهيم المباشرة داخل السرد فإن السياق جنح أيضاً بالوصف إلى صور تكاد تكون معدة بفعل الكاتب بشكل واضح.. لاحظ معي (مر وقت غير كثير لا يعرف كيف حدث ذلك , ترك المكان تحرك يطوف الشوارع حتى بزغ فجر الغد) وكان يمكن أن يكتفي بقوله حتى - بزغ الفجر- , ثم أين القدر المرتب في قوله:" رأته وكأن القدر رتب لـه ذلك, جلست, جلس يحدق فيها) وهو كما نلحظ أن حركة طواف المحب في الشارع حتى الفجر هي التي رتبت بينما القدر يرتب اللحظة المتوهجة لم تكن في الحسبان.
(في قصص قصيرة جداً) وهي خمس أقاصيص الأولى (ارتطام) وقد كتبت بنفس أسلوب قصته (إيحاء) تقريباً غير أنها ارتكزت على لحظة خيالية لم تقدر المسافة مع الواقع حيث تخيل البطل تلك الوقورة التي بهره جمالها أنها أومأت لـه كأنه كان ينتظر تلك الإيماءة لكي يسرع نحوها ناسياً نفسه فيرتطم بالحائط الزجاجي.
أما الثانية (براءة) رغم تصوره البريء لتلك التي تحمل الطفل على أنها إنسانة إلى أن الإثارة المدهشة تجعلها تكتشف أنها حمارة في النهاية وتلك الأقصوصة فيها من عبق العم" يوسف إدريس" , وتحمل أقصوصة وظيفة لقطة مثيرة ودالة حيث تكشف في إيحاءتها عن أن المساحة كبيرة في بين الواقع وبين ما يقال وترميز الحالة على هذا النحو عمق البعد الدلالي مما جعلها متماسكة فالشاي الساخن بدلاً من أن يجعل صفحات الجريدة تقطر حبراً أسوداً جعلها تقطر دماً وهو يعني أن المواجهة مطلوبة دائماً لأنها تعري الأكاذيب التي تحاصر البشر وتلعب بأحلامهم.
ويقف الإنسان في أقصوصة(البالون) أقام نفسه في حالة مواجهة ذاتية بين المعنى والمبنى حيث يتضاءل الأول ويتضخم الثاني الآخر الذي يعمق حالة التعارض النفسي, فالإحساس بتضاؤل الداخل إنما تعاظم مع تضخم الخارج على فراغ لا يمتلئ إلا بالهواء حتى تحول إلى بالون فلما نظر إلى ذاته صامتاً تهاوى فأخذ يلملم أشلاءه كأنه يعيد ترتيب حقيقته من الداخل وهي الأهم.
تتشابه أقصوصة(سقوط) مع أقصوصة(ارتطام) حيث وقار بطلتها يتماثل مع بطلة هذه الأقصوصة غير أني أتساءل عن تلك الوقورة فقد صعدت إلى المسرح ليهنئ العروسين وأرسلن نظرة أين تكمن الدلالة الفنية بعدما كبرت في عينيه وتسللت إلى قلبه في صعودها للمسرح ثانية ثم تهاويها شيئاً فشيئاً.
في ست مقاطع جاءت أيضاً قصة ( في مدارات الزمن) حيث أقام الكاتب"محمود الديداموني" هذه المدارات وهي أيضاً أقاصيص متعددة الأبعاد ولكنها تتحلق حول رؤية واحدة, ففي المقطع الأول يعود إلى ذكريات الطفولة والفضاء الرحب حيث تحيط الحقول بالدار وتحزم القرية ثلاث ترع كأنها شبه جزيرة. وقد كانت براءة الأطفال تضرب عرض الحائط بكل تحذيرات الأمهات وتخويفهم بالجنية التي تجذب الأولاد الحلوين في مقابل هذا الترويع يأتي الولد الذي يكبرهم يحفزهم على العوم ويشجعهم على المنافسة فتذوب المخاوف وهو ما يعني أن التحذير من الخطأ حينما يصل إلى الترويع فإنه يزرع الخوف والتردد, أما التشجيع على تجاوز الخطأ واستنهاض الإرادة فإنه يدعم الشخصية ويمحو الخوف.
يواجه المقطع الثاني الجمود والرتابة والمألوف الجاهز عن طريق صراع الفطرة التي تعايشت في إطار كل هذا مع التغيير فالأولاد ينتظرون الليل حيث يحكم قبضته السوداء كما يقول الكاتب لكي يمارسوا ألعاب لا تصلح إلا فيه غير أن المصباح الوحيد الذي يتوسط طريق القرية وقلما يضئ إذا ما وقع أحدهم في مأزق بالقرب منه ورأى بعضهم البعض أو يمسك أحدهم بالآخر تكون هناك يد خفية قد أرسلت للمصباح حجراً أطاح به ليعود الظلام ثانية في تكرارية مستمرة.
يستمع الأولاد في المقطع الثالث وبعد أن تعبت أقدامهم ولم يعودوا قادرين على اللعب لقصة الشاطر حسن من الجد وهم يلتفون حوله ومنهم من يغلبه النوم مع أول أحداث القصة فتأتي الأمهات لتأخذهم غير أنه وسماح يستمعان في شغف دائم لكن الجد ترفقاً بهما يتصنع النوم حتى يذهبا لكن أمه وأم سماح لا يأتيان لأنهما تعرفان أنهما لا يذهبان للنوم إلا سيراً على الأقدام وهو ما يعني أن الاستعداد المبكر لتكوين الشخصية مهم وقد بدأت تتكون ملامحه.
ويتوقف المقطع الرابع عند طريقة معالجة شقاء التنشئة بالقهر والقمع بزعم تنشئة الابن على الرجولة في مرحلة الطفولة فالأب يتفق مع صديقه خفير القرية ليقول لابنه الصبي أنه لم يعد الوقت وقت لعب ولابد أن ينضم للعمل مع الأنفار تجنباً لشقاوته حتى أنه لم يعد يضع لحم البط في فمه ولا يستسيغه في بيتهم لأن الخفير صديق والده يأكله عندهم كثيراً ثم يستكمل المقطع الخامس رؤية الرابع فحين أقبل الصباح أخذ الخفير الصبي ودسه بين الأنفار وقد ألهب ظهره بخيرزانه رفيعة وهنا يصوغ الكاتب صورة دالة ومعدة للموقف بما تنطوي عليه من حجم القسوة والقهر يفضي هنا إلى قمع نفس الصبي الذي يقول:"لم أتوقف عن البكاء طيلة اليوم ولم يرتفع ظهري ولم يستوِ عودي" ورغم ذلك لم يفقد الرغبة في سماع قصة الشاطر حسن ولم يتخلف عنها بل إن الأولاد يفرحون بجلسته معهم باعتباره يكبرهم كما يتصورون وقد اشترك هو وسماح مع الجد في البحث عن نهاية.
يقابل ذلك في المقطع السادس أن الفتى يدرك التناقض في شخصية أبيه, فهو تارة يشفق عليه من كثرة القراءة ويرى في عينيه حنواً كبيراً وتارة أخرى تذوب من عينيه هذه الإيحاءات ثم يجيء عام الحزن ليكون إشارة انتقالية لقوة الإرادة وعام الحزن يعني الفقر وسدة النفس عن العمل بعد تدهور الزراعة فتتحول حكاية الجد عن الشاطر حسن في هذه الظروف إلى حكايات تستنهض الإرادة وتقوي العزيمة مستنداً إلى أن تاريخاً من المجد في عمر الشعب لن يهتز من الصعوبات ولن يستسلم للأزمات بل أنه يحول هزيمته إلى نصر .
يستقدمهم الجد لكي يقاوموا دودة القطن حتى لا تأكل المحصول وتأكلهم معه يقول الجد:"جلبت لكم بذرته فزرعته وجنيته تيلة بيضاء وغزلته ونسجته سترت عورته وتجملت به انهضوا قبل أن تنكشف عوراتكم"
هكذا تطوف المقاطع الست في عالم يفيض بالأصالة والإرادة والإصرار على جعل الحياة أكثر قبولاً من ذي قبل فيما بين كل الأجيال وفي هذه القصة تتضح قدرة الكاتب على التوغل في عمق موضوعه وتوظيف المناخ الذي يحتوي هذه المدارات قبل أن تأتي على هذه الصياغة الموحية , وبعد أن أخذت الأحلام الوردية البطل في قصته( ليتك..) وهو نائم إلى أحضان الرياض وقد تهاوت إليه أطياف لم يعرفها سيشعر أنه في الجنة فتتسع ابتسامته حتى اكتسب صوتاً سمع صداه وهو مستغرق لكنه حدث نفسه لأن تمرح في الجنة وتتجاهل هذا الصوت لكنه وصل لحد القهقهة وهنا استحضار لحالة نفسية لم يمهد لها مدخل القصة حيث دخل البطل الفوضوي إلى غرفة نومه مثقلاً بالتعب وقد خلع ملابسه وحذائه الذي رمى كل فردة منه في ناحية ثم استلق فوق سريره, لكنه حينما عاود النوم ليستكمل التحليق تداعت لـه الأشباه تتلكأ أمام عينيه وهي تصارعه وقد حاول مرة بعد مرة مقاومتها لكن الصرخة تختنق حتى تفجرت الدموع على الرغم من أن الموقفين يبدوان على حافة التناقض النفسي في مواجهة الذات إلا أن المدخل لم يقم علاقة فنية معهما.
أما قصة(أتراني أحيا حقاً؟!) فيمثل الحوار فيها عصب الأسلوب لذلك جاءت أطول قصة في المجموعة حيث تدور فكرتها حول شادى الرسام المغيب بيده عن الواقع وموقعه المعهود كما يقول الكاتب ملهى الشرق, فينتقل به من حالة الوصف الواقعي إلى تخيل الحدث فشادى خارج من الملهى في حالة سُكر وغير قادر على السير فصاح سارة فوقفت له فإذا بجواره سيدة يبدو أنها تلك التي كانت في الملهى وضربه جمالها لكن السُكر أفقده القدرة على التمييز وقد أخذته معها إلى بيتها الذي يضم الأثاث الفاخر لكي يكون الخيال أقرب للتصديق.
اكتشفت هذه السيدة أن بإمكانها أن توفر لأختها الصماء والتي لا تستطيع الحركة لحظات من السعادة من خلاله, يجئ السائق بأختها وكأنه كما يقول الكاتب يحمل كيساً من غزل البنات – هي الأخرى آية من آيات الجمال وقد أصرت السيدة التي جاءت به إعطاؤه مبلغ كبيراً من المال طالما أنه سيدخل السعادة على أختها المريضة وبينما هو يرسمها واعداً إياها بأن صورتها ستكون خالدة أبدى الدهر بأنها ستكون أروع وأجمل من الموناليزا, يلتقط أنفاسه بصعوبة بعدما ملأت الشرطة الشقة وهو يغمغم بكلمات التعجب والاستفسار ثم أدرك الأمر في استجواب الشرطة للمصالحة وليس لفتح مجال للعداوة.
هو متهم بالقتل ولا يدري بعدما تحول الضابط المستجوب إلى هاجس – راح يحدث شادي نفسه(فقط أشرب.. كل ما أفعله أنني أشرب وأرسم ,فل أجالس النساء في مخادعهن ولا أقتل, أنا لا أستطيع ذبح دجاجة....... إلخ ) فتكون صورة تلك السيدة التي رسمها دليل براءته فقد ارتكب جريمة قتل وأرادت أن تلصقها بهذا الفنان المخمور ولقد اعترفت بعد ذلك أنها قتلت تلك المرأة اللعوب التي انتهت بعلاقتها بابنها بإقامته بالمستشفى للعلاج من مرض الإيدز.
يطوح شادي بزجاجة الخمر وهو أشد حرصاً على أدوات الرسم يقابله منظر ذلك المخمور الذي استلفت نظره وهو يتمايل ويصدر أصواتاً نشازاً متسائلاً( أتراني أحيا حقاً؟!) وهو ما يعني أن فكرة القصة تقوم على التنبيه وخطورة غياب العقل وآثار ذلك على الفرد والمجتمع بشكل عام.
وتشترك قصة بين (أنياب الضباب) مع قصته(أتراني أحيا حقاً؟!) في توظيف قيمة الكابوسية غير أنها تختلف في أن بطل الأولى فنان مخمور انتهى به الأمر إلى الاتهام في جريمة قتل والثانية فالبراءة فيها هي التي أفضت إلى الأزمة باعتبار أنها موقف قدري وظفه الكاتب كمعادل نفسي.
قدرية الفكرة تبدأ من ضباب ما بعد الفجر حيث تذهب النسوة للعمل فإذا براكب دراجة يحوم حول تلك المرأة التي تأخرت عن زميلاتها لحلب الجاموسة ثم يحاول أن يرغمها على الاستجابة لـه بالكلام الخارج ثم بالضرب الذي وصل إلى محاولة فقأ عينيها ثم نزع قرطها لكنه توقف بعد أن سالت الدماء على كتفيها كأن الدماء هي الانفراجة بعد كل هذه المقاومة وقد قذفته بإناء اللبن.
هذه الكابوسية أفضت إلى حالة انسحاق قهرية( تقوقعت على نفسها منهكة القوى فوق أرض بللتها قطرات الندى والضباب لتصير كقطعة من الطين) ورغم ذلك فالحياة مستمرة وهي تنظر إلى نفسها ببعض ما تبقى من عينيها بالرضا.
أما قصة(حتى الموت) فتتوقف أمام الفكرة التقليدية الفقر في مجابهة الغنى وهنا صراع على نخلة بين دار ذلك الرجل الفقير تربى تحتها واستظل بظلها وحلم في فضائها ودار الغني الوافد الذي اشترى قطعة الأرض المجاورة وبنى عليها منزلاً كبيراً والكاتب " محمود الديداموني" يحيلنا إلى تيمة الصراع بين أرض فلسطين المحتلة والصهيونية العالمية يؤكد الفقير أحقيته في النخلة من خلال ضعفه بينما يؤكد الغني أحقيته فيها من خلال استعلائه وصلفه وهو ما تفعله إسرائيل لكن الأمر أبعد من ذلك بكثير حيث أن طيبة الفقراء أوقعته في المهالك فحينما أشهر ذلك الغني السلاح في وجهه بعد أن عاتبه على ضرب الطفل كان يلعب حول النخلة لكنه بدلاً أن يقبل العتاب صفع الطفل على وجهه قدم الفقير شكواه إلى الشرطة وكأنها هنا – الأمم المتحدة – لكنه فوجئ – الفقير – بعناق طويل بين الغني والضابط ثم دار بينهما حوار كأنه ليس طرفاً فيه قبل أنم يقول الضابط للفقير لا تكن أحمقاً ولا تتعدى على حقه مرة أخرى ولما سأله الفقير:هل تغيرت الحقائق؟! صاح الضابط: أية حقائق يا رجل اذهب وإلا أودعتك السجن, يظل هذا الفقير مستسلماً حتى بعد مقتل ابنه برصاص ذلك الغني فتذكر فقط موقف الشرطة فيغرق في دموعه واضعاً جثة ابنه تحت جذع النخلة متوعداً وهي إشارة لـ"محمد الدرة" لكن سرعان ما جاءت صرخة صوته إيذاناً بقدوم مولود جديد فكانت الابتسامة الحزينة.
وتعالج قصة(شرك السطور) حالة الملل من خلال المنظور العام لفكر الكاتب فذلك الشاب وصل به الأمر لحالة الاختناق وكأنه محاصر بالحياة من حوله ويحب تلك التي جرفه العشق إليها فخرج إلى المقهى فلم يختلف الأمر كثيراً غير أن ما استلفت نظره هو ذلك الشاب المنهمك في قراءة شئ في جريدته وهو يشرب الشاي والبسمة على شفتيه يتبين بعد ذلك أن الصورة لذلك الشاب مع الصفحة التي ننشر إبداعات أدبية وذلك واحد منهم والذي ازداد ثقته أكثر من اللازم وهو ينظر لحركة الناس مشهد الشاب هنا يحيله إلى الوراء حيث رأى حبيبته في أحد أركان المكتبة حيث تبين له أنها عاشقة للكتاب من سؤاله لأمين المكتبة – لا يزال الشاب منغلقاً على نفسه..لا يرى إلا صورته وبعض الكلمات التي تحتها – وبينما هو قد اندمج مع الشباب في حديث الأدب والثقافة يجئ صبي المقهى هل قرأت الجريدة يا بيه؟ حيث كان يريد أن يلف فيها شيئاً مما أثار ضحك الشباب بعد ذلك ويتذكر يوم أن أخبرها بشوقه لطلب يدها وبينما هو في البيت دخل صاحبه فيكتشف أنه أمين المكتبة.
وتبدو في قصة( وما زالت) محاولة الخروج من أسر القهر واضحة لكنها بعد أن فاض كيل المقهور فانفجر.. لقد استسلم ذلك المقهور للنوم فرشته الأرض وغطاؤه السماء ولم ينهض مستجيباً للنداء إلا بعد أن تحول إلى سب وشتم فضاق بذلك وقد نفرت عروقه, يهب واقفاً ممسكاً بحذائه وأخذ يضرب من أيقظه بعنف حتى أفقده الوعي ولما ظن أنه قد مات أخذ يجري في براح الصحراء الممتد على ضوء العربات من ناحية الطريق حتى لم يعد يقوى على الحركة ويبدو من تفكيره في أسرته التي يعولها وتحمل من أجلها وخطواته المتثاقلة وتقطع الصحراء التي علتها الشمس واشتدت مرارتها أنه يعمل لدى صاحب عمل في إحدى دول الخليج, يراجع ذلك الذي أيقظه فيقتنع لأنه أساء معاملته كما لو أنه يعمل عبداً عنده يعود بذاكرته إلى يوم سفره زوجته وأولاده وظهره مركون على حائط غرفة مهجورة فقد صار الرحيل يلح عليه بقوة بعدما شعر أن صاحب العمل يطارده اتجه إلى مكتب سفريات فحجز من بعض المال الذي يلفه حول وسطه وبينما هو بالحافلة التي توقفت بعد فترة يجد أن من يضع يده على كتفه هو صاحب العمل فلم يجد مفراً من الهرولة ناحية الباب في اتجاه الطريق الوعر لكنهم أحاطوه من كل اتجاه فإذا كانت محاولة الخلاص لم تكتمل على هذا النحو فإن مجرد التمسك بها يعني استمرار الرغبة في الانعتاق والتحرر والتمسك بالحياة.
تتناول قصة( مفترق الطرق) عبر مشهدين لحرب أكتوبر من خلال تحفيز الشباب على الالتحاق بالجيش للدفاع عن وطنهم, المشهد الأول بالغ الواقعية إلى حد الصرامة فالقرية تكتسي بالسواد وهو ما يحيل إلى إن ذلك انعكاس لنكسة 67 لقد أصاب الحياة في هذا المناخ البؤس وبلغت بالناس إلى حالة الترهل والاختناق فكل شئ متداخل الحيوان مع الإنسان حتى صار كل شئ اعتيادياً والفقر يزداد لدرجة أن الناس لم يعودوا يخشون اللصوص.
المشهد الثاني: في مقهى هوانم حيث يخرجون من هذا المناخ ولو للحظات مفتعلة حيث ينشغلون في لعب الورق وسماع الراديو وحنوها عليهم كما أنهم عرفوا معها أشكال جديداً غير الأسود يطلب منصور الشاي فترد عليه هوانم خلص والسكر شح, فيعقب: حتى هنا والله عيشة تجنن, بكرة تفرج فتقول هوانم: والفرج لما تحبوا وتقصد التحرك للدفاع عن بلادهم حتى تخرج منا مما هي فيه, وبينما تنصت لبيان الراديو الذي قطع الأغنية الوطنية فوجئوا بصرختها التي أنبأت عن استشهاد أخيها وعدد من زملائه تجمدت ألسنتهم وتذكروا صحبته لهم في الأيام الصعبة ثم سألتهم: إنتم عارفين الدنيا زي إيه؟ فيرد منصور زي غلاية الشاي كل شئ يغلي جواها ثم سألتهم ثانية هل تريدون الشاي؟ فتمنوا لكنها اشترطت عليهم دفع الثمن والمقصود أن يلحقوا بتجنيد أنفسهم وقد تحولت هوانم إلى رمز.
كان منصور قد أخذ بيدها وأجلسها في أعقاب سماعها نبأ استشهاد أخيها فظلت تداوم السؤال عليه خاصة وأنه بعث لها برسالة تقول " أحاول دفع الثمن" , وكان العبور حيث حومت النسور في كل مكان بينما هرعت الثعالب إلى مخابئها, ولأن قلبها كان معلقا بالسؤال عن منصور وهو هنا رمز للانتصار, كانت رسالته المعلقة في قلبه على صدره .. (الآن .. الآن فقط .. يمكنك إعداد الشاي للجميع).
اعتمدت قصته (حلال العقد) بشكل واضح على التناول التقليدي أيضا في أن يكون لها مقدمة وعقدة محورية مباشرة ونهاية, فالشبكة التي اختفت في لحظة إعلان الفرح هي جوهر العقد وحلال العقد هو الراوي ذلك الذي يقوم بتقديم المشروبات إلي المدعوين في مثل هذه المناسبات, حكت لـه والدة العريس عن كفاحها من أجل تربية ابنها بعد طلاقها من زوجها المتصابي حتى أصبح ابنها يعمل في الخطوط الجوية, بعد أن وصلوا إلى منزل العروس وبينما هو يستعد لأداء عمله وقد شرعوا في المراسم إذا بوالد العروس ينادى بإحضار الشبكة فيحدث الارتباط والفوضى ثم يختفي العريس, تتساءل أم العريس وتتصل بالهاتف بحثا لعلى وعسى ولا يزال والد العروس ينادي, يتدخل حلال العقد ذلك الذي يقدم المشروبات والذي يمثل في هذه القصة المنقذ فكانت الفكرة التي انحنى لها والد العروس احتراما للتقاليد الطيبة هي ضرورة حضور والد العريس, فتدب الفوضى أرجاء المكان مرة أخرى بحضور الرجل وزوجته والشابة ورغم ذلك لا تماثل زوجته الأولى هيبة ووقارا فإذا نام العريس يغمى عليها بعد أن نظرت إليه هي والعريس يلومانه على فكرته وكان لا بد من نقل الأم إلى المستشفى وبينما حلال العقد يلملم حاجياته يراهم يبحثون وسطها فإذا بالدنيا تموج أمام عيونهم ويكاد لا يرى إلا أطيافا تتجه نحوه وقد سقط مغشيا عليه بفكرته الشريرة حيث وجد نفسه بين حاجياته المبعثرة في المكان الخالي من البشر.
أما قصة (صفحة) فهي حالة تأمل طرفها الذات نفسها في مطلق حالم يبتعد عن متطلبات الواقع التي يمكن من خلالها أن يتحقق الحلم فيطل القصة ذلك الجالس على شاطئ البحيرة يفترش الرمال في منطقة الشلالات بوادي الريان, يداعب المياه بيد ويبحث بالأخرى في الرمال عن شيء, ينظر حوله فإذا بمساحات ممتدة لأرض قاحلة جرداء ونظر إلى الأفق حول البحيرة فإذا بالأشجار خضراء لكنها غير متناسقة يتحول تأمله إلى تفكير عميق بعد أن انتهى من رسم اللؤلؤة المدفونة في قلب الأصداف وقد تخيل أن ماء النيل يتدفق فوق هذه الأرض لينقذها فتدب فيها الحياة وقد تحولت إلى جنان سندسية لكنه سرعان ما رأى في صفحة الماء الأرض جرداء ترثي نفسها وقد غلبته دموعه قبل أن تصل إلى مسامعه صرخات تناديه وقد أبصر وسط الصرخات المستجيرة لسانا يشبهه كلما وطئت قدماه أرضا اخضرت وصار العمران إليها يزحف من رقعة إلى رقعة, وكلما دقق النظر في صفحة الماء تتضح معالم ذلك الإنسان القادم شيئا فشيئا وهو يؤكد لنفسه أنه قريب الشبه منه غير أن الضفدعة التي سقطت فعكرت الماء أضاعت معها الكلمات لكن لم يعد للجلوس والانتظار مبررا حتى يعود الصفاء لصفحة الماء لأن المطلوب فعله هو النهوض للعمل على إعادة الوجه الأخضر لهذه الأرض والقصة على هذا النحو ترى أن إصلاح الأرض وإمدادها بالماء يمثل المفتاح السحري.
تتوقف قصة (موضع قدم) عبر مشهدين أمام طوفان الزيادة السكانية حيث ترصد زحفها على كل مقومات الحياة في المدينة – القاهرة – والتي يرها الكاتب "محمود الديداموني" بعين المقيم في القرية الذي يسافر إليها لإنهاء المصالح. المشهد الأول يبدو فيه ذلك القروي الذي لا يعرف أرقام العربات المتوجة إلى أم المصريين وتتكرر محاولاته لركوب سيارة تحول إلى أمر مستحيل على الرغم من كثرة هذه العربات فالركاب يتشبثون بأبوابها لذلك رأى أن القاهرة مدينة مسكينة لأنها تعج بكل هذا الصخب والحياة لا تهدأ فيها ليل نهار بينما هو يعيش في قريته هانئا رغم أن وسيلة المواصلات عربة واحدة وتغيب أياما دون أن تكون هناك مشكلة, المهم أنها تنتظم يوم السوق.
يزحف الطوفان إلى الشارع الذي تموج به العربات حتى تحولت الحياة على كل المرافق إلى طوابير مما يزيدها صعوبة ويعوضها للأعطال والارتباكات لأنها تئن بالوفاء باحتياجات البشر فتليفون الشارع – على سبيل المثال – يرفض بقاء العملة والاستجابة للمكالمات كأن الحرارة تسربت من التليفون إليهم فازداد الضغط والزحام فكان لا بد من حل بالتوجه لتليفون المتجر حيث المكالمة بجنيهين استغلالا للأزمة, ينهى مكالمته ويرمي للرجل جنيها قبل أن يذوب وسط الزحام.
ثم جاء المشهد الثاني داخل الأتوبيس الذي عرف أنه يحمل لوحة المكان المتجه إليه وقد نجح بافتعال حالة من الجنون أن يركبه حيث يتقدم أمام الأتوبيس المزدحم سيل من العربات الصغيرة قبل أن يجري أما الأتوبيس فيصرخ السائق لإبعاد هذا المجنون لكن الفكرة كانت أن يقف أمام الأتوبيس ليجبره على الوقوف وقد كان ونجحت فأكملها بالتمتمة بكلمات لا يعرفها الركاب ولا هو يعرفها أيضا فأثار الخوف في نفوس الركاب والكمساري للذي هرب بين الركاب حين مد لـه يده بخمسة قروش مع افتعال حالة هستيرية فجلس على كرسيه مهنئا نفسه والناس يتهامسون خوفا رغم شدة الزحام الذي التقط منه ملمحين الأول لهذا الرجل العجوز ومعه طفلين مريضين ويتحدث عن معاناته مع التأمين الصحي والملمح الثاني لتلك المرأة التي أشاح بوجهه عنها بعد أن غازلته ثم رآها تتصبب عرقا بعد ذلك لأنه أدرك أنها تصيدت عبيطا آخر فأفسدت عليها ما هي فيه.
كان عليه أن يجلس الشيخ على الكرسي قبل أن يلقي بنفسه من العربة وهي سائرة وهو لا يرى غير المرأة الشابة ولا يسمع إلا صوت الشيخ الكبير قبل أن يذوب في الزحام وهذا المشهد في تصوري من أن أهم المشاهد في هذه المجموعة لأنه اقترب من الأزمة بفنية عالية تجاوزت فيه تداعيات الأزمة رؤية ذلك القروي لأنه ذاب فيها.
آخر قصص المجموعة (تحت مظلة الكسوف) تتناول حالة إنسانية تتوحد فيها المشاعر مع عناق الطبيعة على كما رآها الكاتب في ذلك الكسوف حيث حال القمر دون بلوغ أشعة الشمس مداها ليكون اللقاء بين الحبيبين. هي تعلم أنه متزوج غير أنها أحبته لتفرده في الفكر والشخصية, يتبادلان رؤية الكسوف من نظارته السوداء قبل أن يتواصل الحديث حول شجونهما الخاصة فإذا بالوقت يمر إلى منتصف الليل دون أن يشعرا به كما يقول الكاتب .. دهشت .. أخذت تلملم دثار البوح ناهضة بالوقوف, مخلصة أصابعها من بين أصابعه, هامسة له .. وداعاً – لكنها تترك اللقاء بينهما ثانية للطبيعة لأن القمر لن يكون حاجزاً دائما بين الشمس والقمر وربما يكون هناك عناق مع الكسوف القادم وتلك الحالة الإنسانية تقضي إلى أن الدنيا لا تستمر على حالة واحدة.
ننتهي إلى أن الموقف الحاكم لرؤية مجموعة (أتراني أحيا حقاً ..؟!) يقوم على نموذج حائر لرجل يقابله نموذج لامرأة غالبا جميلة ويقع البطل في حبها وأحيانا لا يقع لكنه في كل الأحوال يسعى للإجابة عن أسئلة معلقة من خلالها أو من خلال ما تتجه إليه الأحداث التي يصوغها الكاتب "محمود الديداموني" خاصة إذا كانت المرأة مجرد حالة امتنان جمالية أو كانت زوجة حتى عنوان المجموعة – أتراني أحيا حقاً ...؟! – يترك للمتلقي الإحساس بالإجابة وفقا لما عكسته الرؤية القصصية.
الخميس، 28 فبراير 2008
إيقاع الكلمة .. إيقاع البيئة.. فى شعر محمد سليم الدسوقى

الشاعر محمد سليم الدسوقى
إيقاع الكلمة ... إيقاع البيئة
بقلم / محمود الديدامونى
إيقاع الكلمة ... إيقاع البيئة
بقلم / محمود الديدامونى
سوف أبدأ الحديث عن الشاعر محمد سليم الدسوقى من منطلق القدرة لديه على ضبط إيقاع الكلمات بطريقة لافتة للنظر ، وهو ما يجعل القارئ يذهب معه ، وقد لا ينشغل كثيرا بالمحتوى ، الذى هو فى واقع الأمر يحمل دلالات كثيرة ويعبر عن قدرات خاصة للشاعر ، وهو ما قلته للشاعر بالفعل عند إحساسه بالإهمال النقدى الواضح لكتاباته التى قدم فيها جهدا خارقا ورؤية غاية فى الأهمية وتجربة أستطيع أن أقول أنها متفردة ، تختلف كثيرا عن المألوف فى صالوناتنا الشعرية ، ولعل شعوره بالتجاهل النقدى لم يكن حجر عثرة فى طريق مواصلته للكتابة ، فأخذ يعد ديوانا بعد الآخر ، فى كل ديوان تجد متعة مضافة فى تجربة الدسوقى ، ولعل ذلك يدفعنا لتبنى رؤية ( مالارميه ) فى تعريفه للشعر حيث يرى ..
إن الشعر هو التعبير باللغة البشرية وقد أرجعت إلى إيقاعها الأساس، إيقاع المعنى الغامض لمظاهر الوجود، بمعنى أن شرط الشعر ينبع من اكتساب لغته إيقاعاً خاصاً يتشكل من قوة الغموض في الطبقات العميقة للمعنى، تلك التي تحاول تفسير مظاهر الوجود المعقدة تفسيراً شعرياً، إلا أن دخول موسيقى الشعر بوصفها نظاماً قائماً على أسس وقواعد وقوانين منطقية ورياضية زاد من انتظام فعالية البنية الإيقاعية في النص الشعري، وفسّر في الوقت نفسه إشكالية الغموض والقوة فيه، ونقلها من فضائها السحري الغيبي إلى حيث تشتغل أدائياً في بنية القول الشعري، متجاوزة في ذلك الوظيفة التقليدية الصرف للإيقاع.
هذا النظام الجديد بقوانينه ونظمه وقواعده المحددة الواضحة التي تنطوي على إمكانات قابلة للانكشاف بمرور الزمن وتعقيد التجربة الشعرية وتعميقها، يتقدم بوصفه بنية رمزية تنتزع مفاتيحها من شبكة الدلالات التي تمتزج بها، وتنقلها من شكل الحياد في حدود واقعها الرياضي المقنن إلى صورة الانحياز المتضمن استنباط كل عناصر الحياة والإبداع والتجول في هذا الواقع المقنن، وجعله جزءاً متفاعلاً في التجربة.
إن المهمة التقليدية التي ينهض بها الشاعر في محاولة إيجاد محاورة بين إيقاع الدلالة ودلالة الإيقاع، تبدو الآن غير كافية تماماً إذا ما أدركنا سر الارتباط الحيوي بين الشعر والموسيقى والعلاقة العضوية بينهما، بوصف أن الإيقاع المتولد عن هذا التداخل يعد مناخاً حيوياً يوفر لمنظومة الدلالات المتشكلة من جوهر المعنى الشعري قدرة أكبر على التمظهر واتساع الحدود.
إن المعنى لا يتحول من نثري محدد إلى شعري مطلق إلا من خلال اشتغال بنية إيقاعية، تسهم في إحداث هذا التحول الخطير في شكل اللغة وطاقاتها الدلالية، وصولاً إلى التعبير عن الظلال الوجدانية للدلالات.
من هنا يمكن التأكيد على أن أي خلل في الموازنة الحرة بين إيقاع الدلالة ودلالة الإيقاع يصاحبه شرخ في شعرية القصيدة، يؤدي ضرورة إلى خلخلة نظمها وقوانينها.
يمثل الصوت أصغر وحدة إيقاعية في المفردة الداخلية في نسيج القصيدة الشعرية، ويكتسب في دخوله الشعري قيمة إيقاعية مضافة، من خلال الفعاليات التي تنهض بها مجموعة الأصوات المتجانسة والمتناثرة، وهي تؤلف موجهات تقارب قيما ًدلالية معينة، لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال إقصاء إيقاع المفردة الشعرية عن محتواها الدلالي.
وإذا كانت هذه العلاقة يكتنفها الكثير من الغموض والسرية في صورتها المجردة غير الشعرية، فإنها في الشعر تتجلى بكامل قوتها وعطائها، إذ أن للشعر قوته في كشف سرية العلاقة وإبانة غموض آلية التوصل بين معنى الصوت وصوت المعنى فيها.
وتظهر قوة الشعر الكاملة هذه في الطاقة التي ينطوي عليها الصوت مشرباً بالدلالة، وبقدر ما يكون هناك تجاوب صوتي فإنه يسهم في إحداث موازنة سيميائية دلالية، كما أن الجرس الموسيقي وهو يتشكل باندفاعات صوتية ذات صورة أكثر تعقيداً من الصوت المجرد، فإنه يشتغل على تصوير فضاء المعنى، ويعمل الإيقاع بوصفه المرحلة الصوتية الأكثر نضجاً وصيرورة على دعم هذا الفضاء من خلال إنتاج الفعل الصوتي في النص.
إن طبيعة التكون والنمو المحوري للدلالات في النص تفرض على الأصوات المؤلفة لها طبيعة السعة والعمق، بما يحقق تناسباً حياً تتمخض عنه البنية الإيقاعية الخاصة بالنص.
ويبدأ هذا التكون من نقطة "بؤرية" تلتقي فيها بؤرة المعنى مع بؤرة الصوت، ويتم الاتحاد بينهما في منطقة الشعر الغامضة، وباكتساب هذا الاتحاد قوته الشعرية تندفع بؤرة المعنى نحو التخلق الكامل بالتجربة، ومن ثم تقديم مستويات دلالية جديدة مشبعة بالتعدد والاحتمال يصاحبها تطور وتعقيد وعمق في البنية الإيقاعية، بالقدر الذي يستوعب انفجار الدلالة، ويحقق تماسكاً نصياً يستحيل فصله.
إن الوزن في شكله الأساسي المجرد هو الوعاء أو المحيط الإيقاعي الذي يخلق المناخ الملائم لكل الفعاليات الإيقاعية في النص، وهو في ذلك كالأرض الصالحة للزراعة التي لا تكتسب شكلها إلا من خلال النوع المزروع فيها، وهو يخلق منها صورة على نحو خاص تتغير "مادة وإيقاعاً" بتغير النوع. ( 1) فى مهب الشعر .د . نزار بريك . منشورات اتحاد الكتّاب العرب دمشق 2003
فالوزن الشعري هنا تعبيري، بمعنى أن بؤرة الدلالة وظلالها هي التي تعطي للوزن شكله الإيقاعي الخاص.
ولنذهب مع الشاعر فى هذا المقطع من قصيدة ولاّدة بنت المستكفى
(1)
لا تنصرفي حطي رحلك فوق خيولي .... فوق ميولي فوق وعولي وعلى كفيْك .. ضعي في الدفء شذا كفِّى ! فلنا في الشمسلنا في الورْس عُيون تُقىً ....ولنا في الغرس سُلافةُ نعْس !ولنا في العرس..لنا في الأنس..إذا أعطيتِ..صباحةَ أحلام الفردوس ...حطي رحلك صوْب عيوني...فتميمتنا ...في المنعطف !!
وبقدر ما يكون الانسجام الواجب تحققه بين الدلالة والوزن الشعري كبيراً، فإنه يتمخض ضرورة عن التحام جدلي متطور بين فضاء الوزن والفضاء الدلالي في النص الشعري يزيد من أهمية الوزن، وتزداد هذه الأهمية أكثر كلما أصبح الوزن عنصراً دلالياً في النص، على مستوى تعميق البنية الدلالية في ذاتها وتجسيدها، إذ يبدأ من هنا باكتساب جماليته الخاصة التي لا يمكن لها أن تتحقق من دون الوصل بالوزن إلى هذه المرحلة من الالتحام والتفاعل مع بؤرة المعنى وما يتمخض عنها من آفاق دلالية متشعبة، قادرة على التعبير عن التجربة الشعرية بكل عمقها وثرائها وتعقيدها.
وتصبح حركة الوزن طبقاً لهذا المفهوم متماهية مع حركة المعنى ومحددة لها في بعض الأحيان، أي تتدخل في صلب طبيعة التشكيل النسيجي لنظم البناء في النص. " 1 "
ولعل قصيدة ولادة بنت المستكفى للشاعر تقدم شاعرا متمكنا من فنه تماما ، يستحضر التراث فيصبح فاعلا ، ونصبح معه فى تلك الحالة التى أشرت إليها فى صدر الحديث عن الشاعر ننطلق معه ثم نعود لمعرفة ذلك العمق الدلالى واستكشاف ذلك الغموض الجلى فى واقع الأمر ، إلا أن الإيقاع الراقص للكلمات وللمعنى وللدلالة أيضا جعلنا ننبهر بما نقرأ أو نسمع ،فيقول :
(2) " ولادةَ بنتَ المستكفى "لا تنسَىْ في ..الرحْل " العَرْفا "وزهورا تنتظر .. القطفَ وبدُورا فوق ليالينا ...تستبق الراحة والرجْف !وأغاني القصر المسحور .. وزمانَ الغُربة ، والمنفَى !أشياءَك لا تنسى منها .. عصفوراغردَنا صيفا ! ودعاءَ الشيخ المنصور ..وقصيد هوًى .. مائةً , ألفا ..ومُغَنٍّ كان يطرِّزها ..ويمُطُّ الآهةَ.. والحرف !ويرقِّص غانية المَقْهَى...فتُثنِّى الصلصلةُ .. العِطف !ويغار السحْر الإغريقى!ويغار العطر على "دلْفَى"!(3) "ولادة بنت المستكفى"يا بنتَ سماحتنا دورى فرغيفك يعشق تنُّورى !!وخيولى تسبقنا سبقَا ... لرُوَاق السلطان الغُورى !! وأبوك يجُزُّ ..حقائبنا جزَّا ...ويمزق حبى الأسطورى ! فتعالَىْ نأخذ قسمتَنا .. فى بيتى .. غيطى ..شُحْرورى فهنا قصرٌ وهنا أمرٌوهنا خمرٌ وهناك حنِينى ...وحُبورى ! وأبى رجلٌ مستورٌ ..يرفُلُ فى البيت المستور ورضا أمى .. وخلاخلُها ..ودعاء الشيخة .. دستورى !!أرجوكِ ..أخوكِ يباركنا ..ويعانق أطياف النور !وهنا "فرديناندو" يعدُو ..ويصبُّ الليل الديْجورى فدُوَار اللعنة يسكنه ...وسُعار الزهو الأشّورى !(4)"ولادة بنت المستكفى" رُدى يا بنتَ سماحتنا ..فأنا بركانك وسْنانا وأمامك يومٌ للسلْوى ...ورديفٌ يحتضن هوانا !قالت:- فليكن الآنَ !!ونعود لأيكتِنا توّاً ..فأبى يمتارُك ولْهانا وهناك الشيخُ المأذونُ ...وقليلٌ من شمع صبانا ورغيفٌ ينتظر الملح , وزفيفٌ ...فى قلبى كان !...... فمضى ...حمدا لله , وصبرا , شكرا ..عرفانا وعلى ربَوات الأندلس ...ورفيفِ الحمراء جَوَانا !فخيولى مسرجةُ الأمس ..وغُيُولى فى عين الشمس !!وغداً "مرجانة" فى العرس ..تَسْبِى فى شدوٍ "مرجانا" !ويعود الشعر لقافلتى ..ويعود الماء لمجرانا !ويقول الناس لقابلتى : .." ولادةُ بنتُ المستكفى" ...صارت فى النجوى شعراً ..وعلى دقات الموسيقى ..صارت للدنيا .........شانا !!! " 2 " من قصيدة ولادة بنت المستكفى
وكلنا يتذكر قصة ولادة مع ابن زيدون .. أليست القصيدة هذه قدمت لكل ما سبق الحديث عنه آنفا وعبرت عن شاعر صاحب رؤية وتجربة كبيرة يجب الإشادة بها لا الإشارة فقط بعيدا عن دروب التهميش والتجاهل والنسيان .
ولنا أن نستكشف قدرات الشاعر الرومانسية ، عذوبة ورقة فيناجى المحبوبة أيا كانت تلك المحبوبة قائلا :
لأن بشالك بعض الشحوب ... وبعض الندوب .. وبعض الكلال فقد همت فى سقسقات الدلال! وطوعت عينى على فلجة فى السراج... على فلة فى السياج عليـك لأن الذى فى يديك سقام الجمال
ويستمر الشاعر فى مناجاته الهادئة للمحبوبة ، ويطلب منها البوح ، يلح فى طلبه لعدة اعتبارات يسوقها إليها كي تبوح .. ففى قصيدة " بوحى "يشير الشاعر إلى إشارات دالة تعبر عن حالة المحبوبة وموقفها فيبدأ القصيدة قائلا :
أشيحى بوجهك أوْ لا تُشيحى
وهذا يحيلنا لأشياء وأفكار قد تتبادر إلى الذهن على رجع هذا المفتتح ، حيث يبثها أسبابه التى تدفعه لذلك الطلب فيقول :
فقد باح بالعطر همس المُسُوحوصرْصرَت الريحُ نجوى الروابىوعبَّقت الروح شجوى سفوحىأريجُكِ ...لكن أريجى مباحٌوعطرى لعطركَ...فلتستبيحيغداً تقرئين الذي فى كتابىوتسترجعين الذى فى ضريحى !ونقْرِى على غُلَّة فوق بابىوشعرى على لُجَّة فى جروحىتبُوحُ الليالى الضوارى وأنتِعلى نجوةٍ فى الصَّوارى...فبُوحى
حين نتحدث عن الشعر، هذا الخواء ذي الرنين حسب عبارة هيدغر، فإننا إنما نتحدث بالضرورة عن (اللغة الشعرية) سواء أكانت قديمة أم جديدة، أي عن تلك العلاقة التي ألفنا قراءتها أو سماعها في اللغة النثرية الاعتيادية. ولئن كانت لغة النثر نفسها لا تخلو، أحياناً، من بعض الصور البلاغية والمجازية الموجودة هنا وهناك، فإنها لا تصل في كثافتها إلى حد خرق قانون اللغة. فالشعر، كما يقول الناقد الفرنسي (جان كوهن)، ليس نثراً يضاف إليه شيء آخر، بل هو النقيض للنثر، وبالنظر إلى ذلك يبدو سالباً تماماً، غير أن المعروف أن الشعر لا يحطم اللغة العادية إلا ليعيد بناءها، ومن هنا جانبه الإيجابي. ولذلك فإن اللغة لا تكسب صفة الشعرية أو الشاعرية من دون تحقيق قدر مناسب مما صار يسمى (الانزياح) عن قانون اللغة فكل صورة شعرية تعمل على خرق قانون أو قاعدة من قواعد اللغة أو مبدأ من مبادئها الدلالية.
ومعروف أن من أهم مظاهر الانزياح التي أشار إليها (جان كوهن) في كتابه (بنية اللغة الشعرية) يتمثل في أمور مثل التجنيس والقافية اللذين يعملان على عرقلة مظهر الاختلاف الصوتي الذي يضمن أداء الرسالة اللغوية، وخرق الترابط الدلالي والنحوي عن طريق اختلاف الوقفة الدلالية مع الوقفة النظمية، وإسناد صفات غير تلك اعتادت أن تصف الأشياء بها.. الخ " 3 " د: .ضياء خضير شعر الواقع وشعر الكلمات . منشورات اتحاد كتّاب العرب
إيقاع البيئة : -
ولما كان الشعر العربي، شعر مكاني في ارتباطه بالبيئة التي أنتجته، والإنسان الذي أبدعه، ولعل الإنسان لا يمكن أن ينتج شيئا إلا فى مكان وعن مكان ،كان لزاما على الدرس الأدبي أن يلتفت إلى المكان فيه، نظرة لا تحكمها التابعية، فتحصر هم المكان في بعض المظاهر الثانوية، أو تتخطاه لمجرد ذكره بعبارات اهترأت استعمالاتها، و خوت دلالتها،و صدأت جدتها. بل التنقيب في عمق العلاقات التي ينشئها المكان بينه وبين مختلف المعاني، والعادات القولية، والفعلية، والأخلاق، والسلوك. مادامت الغنائية في الشعر العربي إنما تتأسس على اهتمام فردي في المقام الأول، ثم تنفتح لعديد من العلاقات الأخرى.
واستعمل "القرآن الكريم"هذا النعت المكاني:"أصحاب اليمين"و"أصحاب الشمال"للدلالة على أهل الجنة، وأهل النار.كما استعمل غيره من النعوت المكانية لتجسيد صور الإيمان والكفر. ( 4 ) فلسفة المكان في الشعر العربي .د. حبيب مونسى . منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 2001
وهذا يدفعنا للتأكيد على البيئة المكانية والنفسية والاجتماعية بمفاهيمها المختلفة عند الشاعر محمد سليم الدسوقى من خلال مجموعة من الصور الشعرية والدلالات التى وردت فى نصوصه ، حيث لا تخلو قصيدة من قصائده إلا وتبزع مفردات وصور ودلالات تعبر عن البيئة بمستوياتها المكانية والاجتماعية والنفسية فى آن .
ولنقترب قليلا من تأثر الشعراء المحدثين بكل ما أحاط بهم من ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية ، فعلى المستوى الاجتماعي هناك من شغل نفسه أو انشغل بقضايا العدل الاجتماعي ، والتكافل الاجتماعي ، وهناك من اعتنق منهجا سياسيا للدفاع عن حرية واستقلال الأمة وآخرون شغلوا بالقضايا الثقافية ، خاصة أن هذا العصر شهد أكبر محاولات تجديد فى شكل القصيدة العربية ( قصيدة التفعيلة ) وما زالت المعارك الثقافية مستمرة ، لم يكن محمد سليم الدسوقى إلا مستفيدا من هذا الحراك الثقافي وتلك المعارك ، فنتج إبداعه مواكبا لحركات التجديد بما يخدم ما قلناه سلفا عن إيقاع الكلمة ولعل القارئ لشعر الدسوقى يدرك قدراته الفنية العالية فى هذا الخصوص ، ولنذهب معا لبعض قصائد ديوانه (الحب فى زمن الرمادة ) " 5 " ديوان صادر عن سلسلة أصوات معاصرة ..
ذلك الزمن الذى يعكس بلا ريب زمنا ما ودالا على حاضر ما أيضا ، مستخدما مفردات غاية فى الدلالة مكنته من رسم اللوحات الفنية التى أرادها لهذا الزمن المَتاجر فيه بكل المعاني الجميلة ، ويصبح زمنا للدّلاّلات والنخاسين وتجار الكلمات ، ولندرك أيضا مدلول تجار الكلمات هنا ..
إن الشاعر يستخدم مفردات من بيئته التى يعيشها وتعيشه ، تلك البيئة المكانية الريفية التي تعتمد على حرفة الزراعة فيقول :
تحترق حقول القمح
الحلبة
أعواد النعناع
تموت نبوءات الأزهار
فراشات النّوّار
تموء القطة والزنبار
وترمد أرضي
تقذف في الطرقات
ثعابين الرمضاء
نلاحظ تلك الصور التى تنبع جملة وتفصيلا من تلك البيئة المكانية عاكسة لتلك البيئات الأخرى المنصهرة فيها الاجتماعية والنفسية والاقتصادية ، ليدل على ما وصل إليه الحال فى تلك الأرض الخصبة التى تحولت بفعل الزمن من إنتاج للأزهار والثمار الطيبة ، إلى ملجأ للثعابين التى تمرح فى هذا القيظ من الحياة ، وهنا أيضا تدفعنا الصور التى يسوقها الشاعر للتعرض لتأثير الزمان على المكان .. وتعود بنا الذاكرة للدراسات الطللية فى الشعر العربي .
ثم يسوق لنا الشاعر مفردة أخرى وصورة أخرى تحمل روح المقاومة والصمود فيقول :
وتبحث أطيار الظل المفقود
عن العنقود
تتدلى
تعبث
تحتج
تغامر
تغمز منطرف العينين
تفتش فى جوف النسيان
تسائله
تستأذن من حبّات القمح
التائهة الخربة
تفتح أبواب جذوع الأشجار
تقاسم قطعان النمل
جماعات الديدان
بقايا حبّات الزمن الفائت .
نلاحظ أن كل أفعال الفقرة السابقة تدل دلالة واضحة على الحركة والفعل والمحاولة الإيجابية للتخلص من قيود هذا الزمن المدودب على حد تعبير الشاعر.. فهو شاعر لا يقف موقف الراصد المعبر وصفيا عن اللحظة ، بل يعلم جيدا حقيقة الشعر ووظيفته ، وهى قدرته على الفعل والمقاومة .
ولنرى معا هذا الترتيب للأفعال ( تبحث – تتدلى – تعبث – تمنح – تغامر- تقاسم ) . ونلاحظ الفعل الأخير ( تقاسم ) ليدل على أن هناك قدرا من الحق قد تم أخذه نتيجة كل ما سبق من أفعال .
وفى قصيدة العرّافة يقول من تلك المفردات أيضا :
فتزرع شطّها الوردىّ
حور الليل
عريانة
وفى قصيدة سيمفونية يقول أيضا :
ونحلم بالخضرة فى طوفان الدم
وبالظل الوارف في أتون الشمس
ولنذهب لقصيدته الغداء الأخير نجد هذا الكم الهائل من تلك المفردات فيقول :
فلمن تأتين بسلة خبز
أرز
موز
قلة ماء
مأدبة غداء
يا جارية الحقل
وغانية الفقراء
وينطلق فى هذه القصيدة شارحا ما فعله هؤلاء فى حياته وحياتها سواء كانت تلك المخاطبة أمرأة أو وطن فيقول :
جرحوا الحقل وساحوا
لا يلوون على شئ آخر
غير الجرى على أجرين
على شطين نديين
على ثديين حلوبين
ثم يقول
مات الزمن الفائت ودفنّاه
كنّا نسمر بين الحقل وبين الدور
تثغو الساقية
ويثغو الراعي
والأغنام الشائهة
عواء البقرة والطنبور
كنّا ... كان
وهنا نجد الشاعر قد استخدم مفردات ووظفها بطريقة عكسية تعكس طبيعة ما وصل إليه هذا الزمن وتلك البيئة ، وهو ما يمكن أن نطلق عليه بالمفارقة التصويرية ، ناسفا كل العلاقات المنطقية للأشياء وللمفردات ، فها هي الساقية تثغو ، والراعي يثغو ، والبقرة تعوي وكذلك الطنبور ، وفى مثل تلك المفارقات التصويرية نجد أيضا سوار الأذنين ، وقرط المعصم ، والشاعر من وجهة نظرى نجح نجاحا كبيرا فى تلك الصور التى ساقها لنا ، فلم تكن بطريقة عفوية ، بل وظفها بطريقة تعبر عن وعى وتمكن كبيرين ، وليس هذا الحديث عن المفارقة التصويرية فى شعر الدسوقى ، حيث تحتاج لوقت ودراسة أكثر عمقا من مجرد الإشارة فقط .
نعود إلى مفردات الدسوقى المعبرة عن بيئته من خلال صفحات الديوان فيقول فى قصيدة ( حصار الحلم ) :
بعيون الأيام الساهرة وقفنا
ننتظر الشمس
نغازلها نمطرها الدفء
الصدق
الحب
حصاد الأمس المأزوم
ثمار العرق المكدود
الناعس فوق جبين الفأس
صليل المنجل
أفراح السنبل
أحمال السابلة
وحلم الأرض الصابرة
الأمل هو السلاح الذى يمكن الشاعر من المقاومة وعدم الاستسلام ، ينتظر الشمس ، الصباح الذى يعقب الليل والظلام ، يقدم فى سبيل تحقيق حلمه مجموعة أشياء مترجمة فى أفعال ( نغازلها – نمطرها الدفء ) معتمدا فى ذلك على الصدق والحب ورصيد كبير من العمل الجاد والعرق والكد.
ويستمر فيقول :
أحجبة العرّافة
وثغاء العنزة
أحلبها
تقسم ما فى الضرع الفائر قطرة حلب
ما فى الحلق الالصابر كسرة خبز
غصة عشب
هذه هي البيئة التى عاشها الشاعر ، بيئة فقيرة معدمة ، لكنها أبدا ما فقدت الإحساس بالقدرة على الحياة ، تتمسك بالحلم ، وتعشق أيضا التمسك به .
يقول أيضا :
ترقص عافيتي في عرس الشمس
ترّجع أغنية العمر المخضوضر
يملأ أحضان الأجران
تراتيل الساحة
موّال العنزة
إصرار الخنساء
كراريس الأولاد
علامات الاستفهام
وهنا نلاحظ تداخلا لكل البئات التى عاشها الشعر بمفاهيم البيئة النوعية ويستمر فى هذا التناغم بين البيئة الريفية والتراثية والدينية والاجتماعية والنفسية أيضا مستدعيا عمر بن الخطاب ناشدا عودة العدل ، وكما نرى فى الجزء السابق قد استدعى الخنساء ، داعيا استلهام قدرتها على الصبر والتجلد .
الشاعر محمد سليم الدسوقى واحد من الشعراء الذين أجادوا العزف على أوتار الكلمة فكانت إيقاعاته دالة وموحية ومتناسقة وذات شجون ، مستخدما فى ذلك المفردات والصور التى ولدتها تلك البيئة التى أنتجته فأنتجت جل أعماله الشعرية التى تعتبر إضافة كبيرة وهامة لمكتبتنا الشعرية العربية
سوف أبدأ الحديث عن الشاعر محمد سليم الدسوقى من منطلق القدرة لديه على ضبط إيقاع الكلمات بطريقة لافتة للنظر ، وهو ما يجعل القارئ يذهب معه ، وقد لا ينشغل كثيرا بالمحتوى ، الذى هو فى واقع الأمر يحمل دلالات كثيرة ويعبر عن قدرات خاصة للشاعر ، وهو ما قلته للشاعر بالفعل عند إحساسه بالإهمال النقدى الواضح لكتاباته التى قدم فيها جهدا خارقا ورؤية غاية فى الأهمية وتجربة أستطيع أن أقول أنها متفردة ، تختلف كثيرا عن المألوف فى صالوناتنا الشعرية ، ولعل شعوره بالتجاهل النقدى لم يكن حجر عثرة فى طريق مواصلته للكتابة ، فأخذ يعد ديوانا بعد الآخر ، فى كل ديوان تجد متعة مضافة فى تجربة الدسوقى ، ولعل ذلك يدفعنا لتبنى رؤية ( مالارميه ) فى تعريفه للشعر حيث يرى ..
إن الشعر هو التعبير باللغة البشرية وقد أرجعت إلى إيقاعها الأساس، إيقاع المعنى الغامض لمظاهر الوجود، بمعنى أن شرط الشعر ينبع من اكتساب لغته إيقاعاً خاصاً يتشكل من قوة الغموض في الطبقات العميقة للمعنى، تلك التي تحاول تفسير مظاهر الوجود المعقدة تفسيراً شعرياً، إلا أن دخول موسيقى الشعر بوصفها نظاماً قائماً على أسس وقواعد وقوانين منطقية ورياضية زاد من انتظام فعالية البنية الإيقاعية في النص الشعري، وفسّر في الوقت نفسه إشكالية الغموض والقوة فيه، ونقلها من فضائها السحري الغيبي إلى حيث تشتغل أدائياً في بنية القول الشعري، متجاوزة في ذلك الوظيفة التقليدية الصرف للإيقاع.
هذا النظام الجديد بقوانينه ونظمه وقواعده المحددة الواضحة التي تنطوي على إمكانات قابلة للانكشاف بمرور الزمن وتعقيد التجربة الشعرية وتعميقها، يتقدم بوصفه بنية رمزية تنتزع مفاتيحها من شبكة الدلالات التي تمتزج بها، وتنقلها من شكل الحياد في حدود واقعها الرياضي المقنن إلى صورة الانحياز المتضمن استنباط كل عناصر الحياة والإبداع والتجول في هذا الواقع المقنن، وجعله جزءاً متفاعلاً في التجربة.
إن المهمة التقليدية التي ينهض بها الشاعر في محاولة إيجاد محاورة بين إيقاع الدلالة ودلالة الإيقاع، تبدو الآن غير كافية تماماً إذا ما أدركنا سر الارتباط الحيوي بين الشعر والموسيقى والعلاقة العضوية بينهما، بوصف أن الإيقاع المتولد عن هذا التداخل يعد مناخاً حيوياً يوفر لمنظومة الدلالات المتشكلة من جوهر المعنى الشعري قدرة أكبر على التمظهر واتساع الحدود.
إن المعنى لا يتحول من نثري محدد إلى شعري مطلق إلا من خلال اشتغال بنية إيقاعية، تسهم في إحداث هذا التحول الخطير في شكل اللغة وطاقاتها الدلالية، وصولاً إلى التعبير عن الظلال الوجدانية للدلالات.
من هنا يمكن التأكيد على أن أي خلل في الموازنة الحرة بين إيقاع الدلالة ودلالة الإيقاع يصاحبه شرخ في شعرية القصيدة، يؤدي ضرورة إلى خلخلة نظمها وقوانينها.
يمثل الصوت أصغر وحدة إيقاعية في المفردة الداخلية في نسيج القصيدة الشعرية، ويكتسب في دخوله الشعري قيمة إيقاعية مضافة، من خلال الفعاليات التي تنهض بها مجموعة الأصوات المتجانسة والمتناثرة، وهي تؤلف موجهات تقارب قيما ًدلالية معينة، لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال إقصاء إيقاع المفردة الشعرية عن محتواها الدلالي.
وإذا كانت هذه العلاقة يكتنفها الكثير من الغموض والسرية في صورتها المجردة غير الشعرية، فإنها في الشعر تتجلى بكامل قوتها وعطائها، إذ أن للشعر قوته في كشف سرية العلاقة وإبانة غموض آلية التوصل بين معنى الصوت وصوت المعنى فيها.
وتظهر قوة الشعر الكاملة هذه في الطاقة التي ينطوي عليها الصوت مشرباً بالدلالة، وبقدر ما يكون هناك تجاوب صوتي فإنه يسهم في إحداث موازنة سيميائية دلالية، كما أن الجرس الموسيقي وهو يتشكل باندفاعات صوتية ذات صورة أكثر تعقيداً من الصوت المجرد، فإنه يشتغل على تصوير فضاء المعنى، ويعمل الإيقاع بوصفه المرحلة الصوتية الأكثر نضجاً وصيرورة على دعم هذا الفضاء من خلال إنتاج الفعل الصوتي في النص.
إن طبيعة التكون والنمو المحوري للدلالات في النص تفرض على الأصوات المؤلفة لها طبيعة السعة والعمق، بما يحقق تناسباً حياً تتمخض عنه البنية الإيقاعية الخاصة بالنص.
ويبدأ هذا التكون من نقطة "بؤرية" تلتقي فيها بؤرة المعنى مع بؤرة الصوت، ويتم الاتحاد بينهما في منطقة الشعر الغامضة، وباكتساب هذا الاتحاد قوته الشعرية تندفع بؤرة المعنى نحو التخلق الكامل بالتجربة، ومن ثم تقديم مستويات دلالية جديدة مشبعة بالتعدد والاحتمال يصاحبها تطور وتعقيد وعمق في البنية الإيقاعية، بالقدر الذي يستوعب انفجار الدلالة، ويحقق تماسكاً نصياً يستحيل فصله.
إن الوزن في شكله الأساسي المجرد هو الوعاء أو المحيط الإيقاعي الذي يخلق المناخ الملائم لكل الفعاليات الإيقاعية في النص، وهو في ذلك كالأرض الصالحة للزراعة التي لا تكتسب شكلها إلا من خلال النوع المزروع فيها، وهو يخلق منها صورة على نحو خاص تتغير "مادة وإيقاعاً" بتغير النوع. ( 1) فى مهب الشعر .د . نزار بريك . منشورات اتحاد الكتّاب العرب دمشق 2003
فالوزن الشعري هنا تعبيري، بمعنى أن بؤرة الدلالة وظلالها هي التي تعطي للوزن شكله الإيقاعي الخاص.
ولنذهب مع الشاعر فى هذا المقطع من قصيدة ولاّدة بنت المستكفى
(1)
لا تنصرفي حطي رحلك فوق خيولي .... فوق ميولي فوق وعولي وعلى كفيْك .. ضعي في الدفء شذا كفِّى ! فلنا في الشمسلنا في الورْس عُيون تُقىً ....ولنا في الغرس سُلافةُ نعْس !ولنا في العرس..لنا في الأنس..إذا أعطيتِ..صباحةَ أحلام الفردوس ...حطي رحلك صوْب عيوني...فتميمتنا ...في المنعطف !!
وبقدر ما يكون الانسجام الواجب تحققه بين الدلالة والوزن الشعري كبيراً، فإنه يتمخض ضرورة عن التحام جدلي متطور بين فضاء الوزن والفضاء الدلالي في النص الشعري يزيد من أهمية الوزن، وتزداد هذه الأهمية أكثر كلما أصبح الوزن عنصراً دلالياً في النص، على مستوى تعميق البنية الدلالية في ذاتها وتجسيدها، إذ يبدأ من هنا باكتساب جماليته الخاصة التي لا يمكن لها أن تتحقق من دون الوصل بالوزن إلى هذه المرحلة من الالتحام والتفاعل مع بؤرة المعنى وما يتمخض عنها من آفاق دلالية متشعبة، قادرة على التعبير عن التجربة الشعرية بكل عمقها وثرائها وتعقيدها.
وتصبح حركة الوزن طبقاً لهذا المفهوم متماهية مع حركة المعنى ومحددة لها في بعض الأحيان، أي تتدخل في صلب طبيعة التشكيل النسيجي لنظم البناء في النص. " 1 "
ولعل قصيدة ولادة بنت المستكفى للشاعر تقدم شاعرا متمكنا من فنه تماما ، يستحضر التراث فيصبح فاعلا ، ونصبح معه فى تلك الحالة التى أشرت إليها فى صدر الحديث عن الشاعر ننطلق معه ثم نعود لمعرفة ذلك العمق الدلالى واستكشاف ذلك الغموض الجلى فى واقع الأمر ، إلا أن الإيقاع الراقص للكلمات وللمعنى وللدلالة أيضا جعلنا ننبهر بما نقرأ أو نسمع ،فيقول :
(2) " ولادةَ بنتَ المستكفى "لا تنسَىْ في ..الرحْل " العَرْفا "وزهورا تنتظر .. القطفَ وبدُورا فوق ليالينا ...تستبق الراحة والرجْف !وأغاني القصر المسحور .. وزمانَ الغُربة ، والمنفَى !أشياءَك لا تنسى منها .. عصفوراغردَنا صيفا ! ودعاءَ الشيخ المنصور ..وقصيد هوًى .. مائةً , ألفا ..ومُغَنٍّ كان يطرِّزها ..ويمُطُّ الآهةَ.. والحرف !ويرقِّص غانية المَقْهَى...فتُثنِّى الصلصلةُ .. العِطف !ويغار السحْر الإغريقى!ويغار العطر على "دلْفَى"!(3) "ولادة بنت المستكفى"يا بنتَ سماحتنا دورى فرغيفك يعشق تنُّورى !!وخيولى تسبقنا سبقَا ... لرُوَاق السلطان الغُورى !! وأبوك يجُزُّ ..حقائبنا جزَّا ...ويمزق حبى الأسطورى ! فتعالَىْ نأخذ قسمتَنا .. فى بيتى .. غيطى ..شُحْرورى فهنا قصرٌ وهنا أمرٌوهنا خمرٌ وهناك حنِينى ...وحُبورى ! وأبى رجلٌ مستورٌ ..يرفُلُ فى البيت المستور ورضا أمى .. وخلاخلُها ..ودعاء الشيخة .. دستورى !!أرجوكِ ..أخوكِ يباركنا ..ويعانق أطياف النور !وهنا "فرديناندو" يعدُو ..ويصبُّ الليل الديْجورى فدُوَار اللعنة يسكنه ...وسُعار الزهو الأشّورى !(4)"ولادة بنت المستكفى" رُدى يا بنتَ سماحتنا ..فأنا بركانك وسْنانا وأمامك يومٌ للسلْوى ...ورديفٌ يحتضن هوانا !قالت:- فليكن الآنَ !!ونعود لأيكتِنا توّاً ..فأبى يمتارُك ولْهانا وهناك الشيخُ المأذونُ ...وقليلٌ من شمع صبانا ورغيفٌ ينتظر الملح , وزفيفٌ ...فى قلبى كان !...... فمضى ...حمدا لله , وصبرا , شكرا ..عرفانا وعلى ربَوات الأندلس ...ورفيفِ الحمراء جَوَانا !فخيولى مسرجةُ الأمس ..وغُيُولى فى عين الشمس !!وغداً "مرجانة" فى العرس ..تَسْبِى فى شدوٍ "مرجانا" !ويعود الشعر لقافلتى ..ويعود الماء لمجرانا !ويقول الناس لقابلتى : .." ولادةُ بنتُ المستكفى" ...صارت فى النجوى شعراً ..وعلى دقات الموسيقى ..صارت للدنيا .........شانا !!! " 2 " من قصيدة ولادة بنت المستكفى
وكلنا يتذكر قصة ولادة مع ابن زيدون .. أليست القصيدة هذه قدمت لكل ما سبق الحديث عنه آنفا وعبرت عن شاعر صاحب رؤية وتجربة كبيرة يجب الإشادة بها لا الإشارة فقط بعيدا عن دروب التهميش والتجاهل والنسيان .
ولنا أن نستكشف قدرات الشاعر الرومانسية ، عذوبة ورقة فيناجى المحبوبة أيا كانت تلك المحبوبة قائلا :
لأن بشالك بعض الشحوب ... وبعض الندوب .. وبعض الكلال فقد همت فى سقسقات الدلال! وطوعت عينى على فلجة فى السراج... على فلة فى السياج عليـك لأن الذى فى يديك سقام الجمال
ويستمر الشاعر فى مناجاته الهادئة للمحبوبة ، ويطلب منها البوح ، يلح فى طلبه لعدة اعتبارات يسوقها إليها كي تبوح .. ففى قصيدة " بوحى "يشير الشاعر إلى إشارات دالة تعبر عن حالة المحبوبة وموقفها فيبدأ القصيدة قائلا :
أشيحى بوجهك أوْ لا تُشيحى
وهذا يحيلنا لأشياء وأفكار قد تتبادر إلى الذهن على رجع هذا المفتتح ، حيث يبثها أسبابه التى تدفعه لذلك الطلب فيقول :
فقد باح بالعطر همس المُسُوحوصرْصرَت الريحُ نجوى الروابىوعبَّقت الروح شجوى سفوحىأريجُكِ ...لكن أريجى مباحٌوعطرى لعطركَ...فلتستبيحيغداً تقرئين الذي فى كتابىوتسترجعين الذى فى ضريحى !ونقْرِى على غُلَّة فوق بابىوشعرى على لُجَّة فى جروحىتبُوحُ الليالى الضوارى وأنتِعلى نجوةٍ فى الصَّوارى...فبُوحى
حين نتحدث عن الشعر، هذا الخواء ذي الرنين حسب عبارة هيدغر، فإننا إنما نتحدث بالضرورة عن (اللغة الشعرية) سواء أكانت قديمة أم جديدة، أي عن تلك العلاقة التي ألفنا قراءتها أو سماعها في اللغة النثرية الاعتيادية. ولئن كانت لغة النثر نفسها لا تخلو، أحياناً، من بعض الصور البلاغية والمجازية الموجودة هنا وهناك، فإنها لا تصل في كثافتها إلى حد خرق قانون اللغة. فالشعر، كما يقول الناقد الفرنسي (جان كوهن)، ليس نثراً يضاف إليه شيء آخر، بل هو النقيض للنثر، وبالنظر إلى ذلك يبدو سالباً تماماً، غير أن المعروف أن الشعر لا يحطم اللغة العادية إلا ليعيد بناءها، ومن هنا جانبه الإيجابي. ولذلك فإن اللغة لا تكسب صفة الشعرية أو الشاعرية من دون تحقيق قدر مناسب مما صار يسمى (الانزياح) عن قانون اللغة فكل صورة شعرية تعمل على خرق قانون أو قاعدة من قواعد اللغة أو مبدأ من مبادئها الدلالية.
ومعروف أن من أهم مظاهر الانزياح التي أشار إليها (جان كوهن) في كتابه (بنية اللغة الشعرية) يتمثل في أمور مثل التجنيس والقافية اللذين يعملان على عرقلة مظهر الاختلاف الصوتي الذي يضمن أداء الرسالة اللغوية، وخرق الترابط الدلالي والنحوي عن طريق اختلاف الوقفة الدلالية مع الوقفة النظمية، وإسناد صفات غير تلك اعتادت أن تصف الأشياء بها.. الخ " 3 " د: .ضياء خضير شعر الواقع وشعر الكلمات . منشورات اتحاد كتّاب العرب
إيقاع البيئة : -
ولما كان الشعر العربي، شعر مكاني في ارتباطه بالبيئة التي أنتجته، والإنسان الذي أبدعه، ولعل الإنسان لا يمكن أن ينتج شيئا إلا فى مكان وعن مكان ،كان لزاما على الدرس الأدبي أن يلتفت إلى المكان فيه، نظرة لا تحكمها التابعية، فتحصر هم المكان في بعض المظاهر الثانوية، أو تتخطاه لمجرد ذكره بعبارات اهترأت استعمالاتها، و خوت دلالتها،و صدأت جدتها. بل التنقيب في عمق العلاقات التي ينشئها المكان بينه وبين مختلف المعاني، والعادات القولية، والفعلية، والأخلاق، والسلوك. مادامت الغنائية في الشعر العربي إنما تتأسس على اهتمام فردي في المقام الأول، ثم تنفتح لعديد من العلاقات الأخرى.
واستعمل "القرآن الكريم"هذا النعت المكاني:"أصحاب اليمين"و"أصحاب الشمال"للدلالة على أهل الجنة، وأهل النار.كما استعمل غيره من النعوت المكانية لتجسيد صور الإيمان والكفر. ( 4 ) فلسفة المكان في الشعر العربي .د. حبيب مونسى . منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 2001
وهذا يدفعنا للتأكيد على البيئة المكانية والنفسية والاجتماعية بمفاهيمها المختلفة عند الشاعر محمد سليم الدسوقى من خلال مجموعة من الصور الشعرية والدلالات التى وردت فى نصوصه ، حيث لا تخلو قصيدة من قصائده إلا وتبزع مفردات وصور ودلالات تعبر عن البيئة بمستوياتها المكانية والاجتماعية والنفسية فى آن .
ولنقترب قليلا من تأثر الشعراء المحدثين بكل ما أحاط بهم من ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية ، فعلى المستوى الاجتماعي هناك من شغل نفسه أو انشغل بقضايا العدل الاجتماعي ، والتكافل الاجتماعي ، وهناك من اعتنق منهجا سياسيا للدفاع عن حرية واستقلال الأمة وآخرون شغلوا بالقضايا الثقافية ، خاصة أن هذا العصر شهد أكبر محاولات تجديد فى شكل القصيدة العربية ( قصيدة التفعيلة ) وما زالت المعارك الثقافية مستمرة ، لم يكن محمد سليم الدسوقى إلا مستفيدا من هذا الحراك الثقافي وتلك المعارك ، فنتج إبداعه مواكبا لحركات التجديد بما يخدم ما قلناه سلفا عن إيقاع الكلمة ولعل القارئ لشعر الدسوقى يدرك قدراته الفنية العالية فى هذا الخصوص ، ولنذهب معا لبعض قصائد ديوانه (الحب فى زمن الرمادة ) " 5 " ديوان صادر عن سلسلة أصوات معاصرة ..
ذلك الزمن الذى يعكس بلا ريب زمنا ما ودالا على حاضر ما أيضا ، مستخدما مفردات غاية فى الدلالة مكنته من رسم اللوحات الفنية التى أرادها لهذا الزمن المَتاجر فيه بكل المعاني الجميلة ، ويصبح زمنا للدّلاّلات والنخاسين وتجار الكلمات ، ولندرك أيضا مدلول تجار الكلمات هنا ..
إن الشاعر يستخدم مفردات من بيئته التى يعيشها وتعيشه ، تلك البيئة المكانية الريفية التي تعتمد على حرفة الزراعة فيقول :
تحترق حقول القمح
الحلبة
أعواد النعناع
تموت نبوءات الأزهار
فراشات النّوّار
تموء القطة والزنبار
وترمد أرضي
تقذف في الطرقات
ثعابين الرمضاء
نلاحظ تلك الصور التى تنبع جملة وتفصيلا من تلك البيئة المكانية عاكسة لتلك البيئات الأخرى المنصهرة فيها الاجتماعية والنفسية والاقتصادية ، ليدل على ما وصل إليه الحال فى تلك الأرض الخصبة التى تحولت بفعل الزمن من إنتاج للأزهار والثمار الطيبة ، إلى ملجأ للثعابين التى تمرح فى هذا القيظ من الحياة ، وهنا أيضا تدفعنا الصور التى يسوقها الشاعر للتعرض لتأثير الزمان على المكان .. وتعود بنا الذاكرة للدراسات الطللية فى الشعر العربي .
ثم يسوق لنا الشاعر مفردة أخرى وصورة أخرى تحمل روح المقاومة والصمود فيقول :
وتبحث أطيار الظل المفقود
عن العنقود
تتدلى
تعبث
تحتج
تغامر
تغمز منطرف العينين
تفتش فى جوف النسيان
تسائله
تستأذن من حبّات القمح
التائهة الخربة
تفتح أبواب جذوع الأشجار
تقاسم قطعان النمل
جماعات الديدان
بقايا حبّات الزمن الفائت .
نلاحظ أن كل أفعال الفقرة السابقة تدل دلالة واضحة على الحركة والفعل والمحاولة الإيجابية للتخلص من قيود هذا الزمن المدودب على حد تعبير الشاعر.. فهو شاعر لا يقف موقف الراصد المعبر وصفيا عن اللحظة ، بل يعلم جيدا حقيقة الشعر ووظيفته ، وهى قدرته على الفعل والمقاومة .
ولنرى معا هذا الترتيب للأفعال ( تبحث – تتدلى – تعبث – تمنح – تغامر- تقاسم ) . ونلاحظ الفعل الأخير ( تقاسم ) ليدل على أن هناك قدرا من الحق قد تم أخذه نتيجة كل ما سبق من أفعال .
وفى قصيدة العرّافة يقول من تلك المفردات أيضا :
فتزرع شطّها الوردىّ
حور الليل
عريانة
وفى قصيدة سيمفونية يقول أيضا :
ونحلم بالخضرة فى طوفان الدم
وبالظل الوارف في أتون الشمس
ولنذهب لقصيدته الغداء الأخير نجد هذا الكم الهائل من تلك المفردات فيقول :
فلمن تأتين بسلة خبز
أرز
موز
قلة ماء
مأدبة غداء
يا جارية الحقل
وغانية الفقراء
وينطلق فى هذه القصيدة شارحا ما فعله هؤلاء فى حياته وحياتها سواء كانت تلك المخاطبة أمرأة أو وطن فيقول :
جرحوا الحقل وساحوا
لا يلوون على شئ آخر
غير الجرى على أجرين
على شطين نديين
على ثديين حلوبين
ثم يقول
مات الزمن الفائت ودفنّاه
كنّا نسمر بين الحقل وبين الدور
تثغو الساقية
ويثغو الراعي
والأغنام الشائهة
عواء البقرة والطنبور
كنّا ... كان
وهنا نجد الشاعر قد استخدم مفردات ووظفها بطريقة عكسية تعكس طبيعة ما وصل إليه هذا الزمن وتلك البيئة ، وهو ما يمكن أن نطلق عليه بالمفارقة التصويرية ، ناسفا كل العلاقات المنطقية للأشياء وللمفردات ، فها هي الساقية تثغو ، والراعي يثغو ، والبقرة تعوي وكذلك الطنبور ، وفى مثل تلك المفارقات التصويرية نجد أيضا سوار الأذنين ، وقرط المعصم ، والشاعر من وجهة نظرى نجح نجاحا كبيرا فى تلك الصور التى ساقها لنا ، فلم تكن بطريقة عفوية ، بل وظفها بطريقة تعبر عن وعى وتمكن كبيرين ، وليس هذا الحديث عن المفارقة التصويرية فى شعر الدسوقى ، حيث تحتاج لوقت ودراسة أكثر عمقا من مجرد الإشارة فقط .
نعود إلى مفردات الدسوقى المعبرة عن بيئته من خلال صفحات الديوان فيقول فى قصيدة ( حصار الحلم ) :
بعيون الأيام الساهرة وقفنا
ننتظر الشمس
نغازلها نمطرها الدفء
الصدق
الحب
حصاد الأمس المأزوم
ثمار العرق المكدود
الناعس فوق جبين الفأس
صليل المنجل
أفراح السنبل
أحمال السابلة
وحلم الأرض الصابرة
الأمل هو السلاح الذى يمكن الشاعر من المقاومة وعدم الاستسلام ، ينتظر الشمس ، الصباح الذى يعقب الليل والظلام ، يقدم فى سبيل تحقيق حلمه مجموعة أشياء مترجمة فى أفعال ( نغازلها – نمطرها الدفء ) معتمدا فى ذلك على الصدق والحب ورصيد كبير من العمل الجاد والعرق والكد.
ويستمر فيقول :
أحجبة العرّافة
وثغاء العنزة
أحلبها
تقسم ما فى الضرع الفائر قطرة حلب
ما فى الحلق الالصابر كسرة خبز
غصة عشب
هذه هي البيئة التى عاشها الشاعر ، بيئة فقيرة معدمة ، لكنها أبدا ما فقدت الإحساس بالقدرة على الحياة ، تتمسك بالحلم ، وتعشق أيضا التمسك به .
يقول أيضا :
ترقص عافيتي في عرس الشمس
ترّجع أغنية العمر المخضوضر
يملأ أحضان الأجران
تراتيل الساحة
موّال العنزة
إصرار الخنساء
كراريس الأولاد
علامات الاستفهام
وهنا نلاحظ تداخلا لكل البئات التى عاشها الشعر بمفاهيم البيئة النوعية ويستمر فى هذا التناغم بين البيئة الريفية والتراثية والدينية والاجتماعية والنفسية أيضا مستدعيا عمر بن الخطاب ناشدا عودة العدل ، وكما نرى فى الجزء السابق قد استدعى الخنساء ، داعيا استلهام قدرتها على الصبر والتجلد .
الشاعر محمد سليم الدسوقى واحد من الشعراء الذين أجادوا العزف على أوتار الكلمة فكانت إيقاعاته دالة وموحية ومتناسقة وذات شجون ، مستخدما فى ذلك المفردات والصور التى ولدتها تلك البيئة التى أنتجته فأنتجت جل أعماله الشعرية التى تعتبر إضافة كبيرة وهامة لمكتبتنا الشعرية العربية
الاثنين، 18 فبراير 2008
كتب الأديب الكبير / سمير الفيل عن مؤتمر ديرب نجم .. الموروث الشعبى

في مؤتمر ديرب نجم :
الأدب يجمع كل الأضداد على أرضية الموروث الشعبي
.* أصبح شعار " مؤتمر اليوم الواحد " نموذحا ناجحا للأفكار التي يمكن توليدها في ظل ظروف مناوئة للمعرفة !
* حين يتحول المبدعون إلى نقاد .
تجربة حققت نجاحا ملموسا وأنهت هيمنة الأكاديميين المطلقة
.* الدكتور محمد عبدالسلام : أرفض السيرة الهلالية لأنها سيرة جماعة من قطاع الطرق واللصوص !
* علاء عيسى يسعى للتجاوز وكسر المألوف فهو بذلك يغرد خارج السرب .
* وظفت نجلاء محرم باقتدار للوثائق التاريخية ،
و تبنت مفهوم العرب للزمان ، وهو الزمن الدوري وليس الأفقي .
* في قلب مدينة ديرب نجم كانت الدورة السابعة من مؤتمر اليوم الواحد الذي نبتت فكرته في تلك البقعة الخضراء المدججة بالمثقفين ومحبي الأدب شمال شرق الدلتا ، وقد حضرت في السابق باحثا لكنني تواجدت هذه المرة متابعا لتجربة رائدة انبثقت فكرتها من هنا ، وهذا أتاح لي فرصة تدوين كل صغيرة وكبيرة في تجربة الزملاء ، للاستفادة بها في تجارب مماثلة . ومؤتمر اليوم الواحد تقليد ابتدعته مجموعة الشباب في " ديرب نجم " للتغلب على ظروف معينة منها قلة الإمكانيات ، وفقر المؤسسة الثقافية ، وابتعاد مدينتهم عن مركز اتخاذ القرار لكن نجاحه جعل المسئولين يقتنعون بالفكرة ، فعمموها في كل أنحاء مصر ، وأصبح شعار " مؤتمر اليوم الواحد " نموذحا ناجحا للأفكار التي يمكن توليدها في ظل ظروف مناوئة للمعرفة ونقل الثقافة .
* هي مدينة يغلب عليها الطابع الريفي ـ ليست حرفية مثلا كدمياط أو ساحلية كبورسعيد أو صناعية تضج بمحركات الآلات كالمحلة الكبرى ـ تقع جنوب الزقازيق العاصمة وقد ارتبط اسمها ثقافيا بالشاعرين الكبيرين الدكتور حسين علي محمد والدكتور صابر عبدالدايم ، وحينما كانت الصحبة الحلوة تودع وفدنا الصغير قال لي صديق أحبه لفيض إخلاصه لهؤلاء الرواد : لا تنس أن تذكر في تغطيتك أننا ممتنون جدا لوجود دراسات لهذين الشاعرين الكبيرين في أوراق المؤتمر رغم أنهما خارج الوطن.* وعودة إلى فعاليات مؤتمر " الأدب وموروثاتنا الشعبية " الذي انعقد يوم الاثنين 5 مارس 2007 نجد أن رئيسه هو الشاعر الصحافي حزين عمر ، وأمينه العام المسرحي عبدالله مهدي أما رئيس لجنة الأبحاث فهو الشاعر الشاب علاء عيسى . والجميل في أمر كتيبة المثقفين في " ديرب نجم " أنهم يتحركون بشكل جماعي ، ويتبادلون الأدوار في حب وحميمية ، وبتناغم عال مؤكدين أن لديهم الرغبة في التعلم والمثقاقفة دون استعداء العاصمة والصراخ في وجه كل صحفي يقترب منهم بعبارات مثل " نحن مظلومون أو نتعرض لتعتيم مقصود " . هذه الثقة التي يتعاملون بها مع الوضعية الثقافية المصرية وفرت لهم مساحة من المصداقية تجلت في كتاب الأبحاث الذي تخلص من عيوب الطباعة المدمنة ، فالأخطاء بسيطة ،والبنط مناسب كما أن الغلاف للفنان أحمد الجنايني في غاية الروعة والرشاقة.* لكن هذا ليس معناه أن كل شيء " تمام التمام " فثمة ملاحظات من أبرزها تأخر جلسة الافتتاح ، ومشكلات مكبر الصوت الذي تنقطع تردداته باستمرار ، وعدم حضور بعض الباحثين والمبحوثين رغم أن الأمانة قد اجتهدت بوضع لوحات إرشادية تضم أسماء الفريقين.* تضمن الافتتاح كلمة رئيس النادي الأدبي القاص أحمد محمد عبده ، وكلمة أمين عام المؤثمر عبدالله مهدي ، وكلمة رئيس المؤتمر حزين عمر ، ثم كلمة محمد الشاعر مدير فرع ثقافة الشرقية ، وكلمة لتحية المؤتمرين لحسن الشاعر ، وقد تأخر حضور رئيس الإقليم الثقافي لوجوده في اجتماع بالقاهرة ولم يحضر إلا في الجزء الأخير من تناول الأبحاث .* تضمن حفل الافتتاح تكريم فتحي حامد عقل مدير فرع ثقافة الشرقية السابق ، ومعنى التكريم هنا أن الرجل قد ترك " بصمة " فعلا في مفهوم العمل الثقافي فقد تعامل مع الأدب والفنون تعامل المحب ، لذا جاء التكريم مستحقا ، وهو عبارة عن لوحة بديعة تأخذ شكل باقة أزهار مشغولة بالمعدن المذهب مع شهادة تقدير. ووزعت على الحضورمطوية تتضمن سيرة ذاتية للمكرم عرفنا منها أنه من مواليد محافظة الدقهلية 1946 ، حصل على ليسانس آداب من جامعة الأسكندرية 1970 ، وقد عين بالثقافة الجماهيرية في نفس السنة ، والتحق بالخدمة العسكرية وترقى حتى رتبة " نقيب احتياطي " وكان له شرف عبور قناة السويس في حرب أكتوبر 1973 ، وقد عمل بليبيا والسعودية ومثل مصر في الأسبوع الثقافي بعمان ، وتدرج في المناصب الثقافية وكان آخرها منصب مدير عام ثقافة الشرقية 2002 حتى بلغ سن المعاش في سبتمبر 2006. والحقيقة أن فتحي عقل واحد من أهم المديرين الذين يأخذون مهمة قيادة الثقافة بجدية وضمير يقظ عكس عشرات غيره يتعاملون مع المنصب تعامل الكاره أو الموظف البيروقراطي الحانق على الرواد والثقافة والدنيا بأسرها .* الجلسة البحثية الأولى أدارها الدكتور محمود عبدالحفيظ وتضمنت دراسة هامة جدا " حول المأثورات الشعبية " للأستاذ الدكتور محمد عبدالسلام أستاذ الأدب الشعبي بجامعة الزقازيق والذي أكد أن الماثورات الشعبية تؤدي وظائف لا غناء عنها في حياة أصحابها ، وقد تكون هذه الوظيفة هي ترسيخ معتقد أو قيمة أخلاقية ، أو هي تعليم من يتلقاها بعض المعارف الشعبية أو هي تأكيد قيمة اجتماعية ، أو اعتقادية ، ومنها كذلك المعاونة على ضبط حركة الجسم ، أو هي الترويج في إطار الحياة الشعبية كما يقول الدكتور أحمد رشدي صالح . وهاجم الدكتور محمد عبدالسلام السيرة الهلالية وقال إنها سيرة جماعة من قطاع الطرق واللصوص سطوا على هذا الشعب حينما مروا من الجزيرة العربية إلى تونس في هجرة بشرية جالبين معهم تراثا بدويا غريبا لا علاقة لنا به ، ولكن يوجد هناك أدب شعبي حقيقي مثل الغناء الذي يغنيه الناس في أحزانهم وأفراحهم ، وفي طقوس الزواج والميلاد ، مثلما نستمع للفلاح وهو يغني لنهره :" لولا الوداد ما جريت يانيل ..ولاجرت في القنا المية .. " .وأضاف الباحث أن الأدب الشعبي يتسم بالجانب النفعي ، ويختلف بذلك من وجوه كثيرة عن الأدب الفصيح الرسمي ، ذلك أن الأدب الشعبي يرتبط بمنفعة الإنسان وثرواته أكثر مما يرتبط بتحقيق القيمة الجمالية أو التسلية أو الترفيه أو تزجية أوقات الفراغ.* الجلسة الثانية رأسها القاص أحمد محمد عبده وتضمنت أربعة أبحاث :ـ قدم عبدالمنعم عواد يوسف قراءة في ديوان " تنهدات الريح " للشاعر محمد سليم الدسوقي ، وأذكر أن الدسوقي قد أصدر أول ما اصدر في بداية سلسلة " أصوات معاصرة " ديوان " طقوس الليل الممتدة " ، وقد أشار الباحث إلى أنه إذا تجاوزنا الظاهرة الموسيقية إلى المحتوى فسنرى أن التجربة الوجدانية المتصلة بالحب والعاطفة والعلاقة بالأنثى تشكل المشترك الأعظم في محتوى قصائد الديوان .ـ الدكتور شكري الطوانسي أستاذ الأدب والنقد بجامعة الزقازيق قدم بحثا بعنوان " المفارقة في بناء العالم الشعري" وفيها قراءة في ثلاثة دواوين لكل من بدر بدير وعبده الريس ورضا عطية. وفي متن الدراسة أشار الباحث إلى أنها قد تكون مصادفة أن تتفق الرؤى الشعرية الثلاثة على اختيار المفارقة بنية للوجود الشعري في عوالمهم وقد تكون مماحكة نقدية أو إسقاطا لإيديولوجيا المؤول الذي يرى أن الوجود الإنساني ينهض بالتناقض والتعارض والتنافر موسعا من مقولة " د. سي . ميويك " إن " تجاور المتنافرات جزء من بنية الوجود " . ـ الناقد مجدي جعفر قدم قراءة متماسكة لثلاثة دواوين شعرية رأى فيها أن الشاعر علاء عيسى في ديوانه " خيانة " يسعى للتجاوز وكسر المألوف فهو بذلك يغرد خارج السرب حيث ينطلق من رؤية واضحة ، وله فلسفته وأيديولوجيته ، منحازا إلى جموع الناس التي تعاني وتجاهد ، أما الشعر علي عبدالعزيز فهو رغم عتمة الواقع وقسوته في ديوانه " نعي الغلابة لبعضهم " مازال قادرا على الغناء ، ومع الشاعر ناصر فلاح نجده يعود لرياض الشعر ليغرد للمحبوبة و الوطن . ـ وآخر دراسات التي قدمت في الجلسة الثانية ما قدمه الباحث نبيل مصيلحي في تناوله لديواني " خفافيش " لحسين منصور ، وحامد أنور في ديوان " بهدوء طليت على البحر " . في التمهيد التنظيري للدراسة يرى مصيلحي أن الكثير من الدراسات النقدية تعجز عن اكتشاف ما في النص الشعري العامي من إبداع يتبنى رؤية الشاعر وموقفه تجاه العالم ، أو تطرح ما في النص من أفكار ومعاني وعواطف ورؤى ورموز ودلالات وموسيقى. * الجلسة الثالثة والأخيرة خصصت للسرد وقد أدارها الشاعر علاء عيسى ، وقدمت فيها عدة دراسات :ـ الدراسة الأولى قدمها بهي الدين عوض عن فتحي سلامة حول المجموعة القصصية " هؤلاء علموني الحب " لفتحي سلامة ، وقال الناقد أن سلامة جســّد في هذه المجموعة قضايا العالم المعاصر ، برؤية ثاقبة كاشفة وبأسلوب شيق رشيق سهل ممتنع ، وفي إيقاع درامي يتوائم مع إيقاع هذا العالم الغريب المدهش الذي يموج بالمفاجآت والمتناقضات والمفارقات بعد أن اختل ميزان الحق ، وغيبت الحقيقة ، وتاهت مسارات خطاها.ـ الدراسة الثانية جاءت أقرب لمجموعة بحوث حول عدد من كتاب السرد في " ديرب نجم " . فثمة متواليات نقدية تكمل بعضها بعضا ، فالمعالجة الأولى حملت عنوان " بنية الحداثة في قصص مجدي جعفر القصيرة " ، وقال الباحث صادق إبراهيم صادق أن بنية الحداثة تمثل نمطا يوشك أن يصبح متفردا في مكونات نصوص مجدي جعفر لتثير دهشة القاريء والناقد معا حيث نجح في الإفلات من براثن الغموض والتيه المتعمد أحيانا من جانب ممن كتبوا القصة . تستهوي القاص فكرة التجريب والخوض في ميادين العبثية بحيث يتماهى الزمان في المكان وتتداخل الشخوص وتتقاطع وتنكسر كل القواعد المنطقية وجعفر يسعى جادا لتوظيف كل أشكال (الفانتازيا ) والتجريب لخدمة الفكرة التي يريد القاص أن يسلط الضوء عليها.وفي معالجته لمجموعة " ليست كغيرها " للقاص محمود الديداموني طرح " دلالة العنوان "، ورأى أن الكاتب له رغبة شديدة في خلق شكل قصصي مستمد من حضور تجربته الفردية ويقودنا بذلك إلى استشعار أكثر من احتمال أمام كل قصة وأضاف الباحث إن عنوان المجموعة فخ للقاريء ، فعندما تقرأ العنوان يتبادر إلى ذهنك أن هناك فتاة ليست كغيرها ، وعندما تقرأ القصة تفاجأ بأنك وقعت في خدعة العنوان أو شركه وأوضح أن المجموعة تتميز بتعدد الأفكار التي يطرحها كل نص ، وانفتاحها على الشكل الذي يصل إلى القاريء حسبما يمليه عليه ذوقه الأدبي وتفاعله مع الحياة ، ويتجه الديداموني نحو الذات مباشرة بكل ما عليها من معاناة.وفي تناوله لمسرحية "عودة خضرة الشريفة " وجد الباحث أن عبدالله مهدي استطاع أن يتحرر تماما من التجربة التاريخية كما دونت أو رويت ، وعاش التجربة الواقعية بكل ما تحمل من مآس وأحزان مستعيدا روح الماضي ليعبر عن جوهر الحاضر فلا تعوزنا الفطنة الشديدة لإدراك أن المؤلف وصل بهذا العمل إلى مستوى المواجهة مع التراث : الإتصال والانفصال.ـ قدم الدكتور ابراهيم عبدالعزيز زيد أستاذ الأدب والنقد بجامعة الزقازيق دراسة ثالثة بعنوان " التقاء الخيوط المتوازية " وهي تتناول البناء الدلالي لرواية " الغزو عشقا " لنجلاء محرم .قال الباحث أن الرواية قد أقامت بناءها من مجموعة من الرواة يتبادلون السرد ، بالإضافة إلى وثائق تاريخية برزت بوصفها سردا مقحما وأضاف الباحث أن ثمة إشارة مهمة ، وهي توظيف الكاتبة باقتدار للوثائق المتبادلة بين بونابرت ودوجا ، وعبر الباحث عن تقديره للروائية التي تبنت مفهوم العرب للزمان ، وهو الزمن الدوري وليس الأفقي ، وفيه تشتبك أحداث الماضي بالحاضر والمستقبل ، وهنا نجد أن الحاسة التاريخية هي عند المبدع هي التي تقرب بين الزمني واللازمني . الزمني الذي هو زمن كتابة النص ، واللازمني الذي هو تاريخ مفتوح يسقط منه ما يشاء ويستبقى منه ما يشاء . ـ كذلك قدم محمود الديداموني قراءة نقدية في متوالية بحثية ضمت ثلاثة أعمال : بدأها بتناول رواية أحمد محمد عبده " ثعالب الدفرسوار " وجعل عنوان دراسته " إدفنوني حيث أموت . صراع بين الراسخ والمتطفل " ، حيث أكد أنها رواية تمتليء بروح المقاومة والتوحد ، ويعاني أبطالها من الظلم المنتشر في كل مكان . من العدو ومن الحبيب . إنها رواية تختلف فيها معايير الحكم على الأشياء . يجد الواحد نفسه تحت كم هائل من الضغط النفسي والعصبي الذي لاحد له .كما قدم الباحث قراءة ثانية في رواية "شغل الليل والنهار " للقاص ثروت مكايد عبدالموجود ، وأوضح أن الرواية تدور في فترة الستينات من القرن الماضي ، يتعرض فيها الكاتب إلى اضطهاد الثورة ورجالها للإخوان المسلمين ويؤكد ثروت مكايد لأهمية أن يعود النظام الإسلامي إلى الوجود حيث بعودته تستقيم الأمور . وقال الباحث أن الرواية جلبت إلى ذهنه قضية " موت المؤلف" ، كما نلمح وجود حبل سري بين الرواية كعمل أدبي وبين السياسة .وأخيرا قدم الديداموني قراءة عنونها ب" مجنون أحلام بين الحيز وآليات السرد " وهي قراءة في مجموعة قصصية للدكتور حسين علي محمد . وقد أكد الباحث في مقدمة دراسته أننا أمام قاص متمرس ومتجدد وذو شخصية ، وأمام مجموعة قصصية دسمة ، ذلك الرسم الفني الذي لا يصدر إلا عن كاتب واع استطاع بمفردات حياتية أن يشكل عملا على قدر كبير من الاتصال . وأضاف الباحث في بنية الدراسة : " إن رسم الشخصيات لا يكتمل ولا تتحدد معالمها بدون إطار يضمها ، ولست أعني بالمكان هنا الإطار الضيق له حيث تعدى الكاتب هذا المكان ليشمل حيزا أكبر منه ، وهو ما يمكن أن نطلق عليه " الحيز " حيث ينصرف استعمال الحيز إلى النتوء والوزن والثقل والحجم والشكل على حين المكان لا يتعدى حدوده الجغرافية " . وقد اعترض الدكتور محمود عبدالحفيظ في مداخلته على هذا التوصيف ووجد ان الحيز هو المكان ، وكان ذلك ضمن مجموعة من المداخلات الأخرى التي تناولت الدراسات المطروحة للمناقشة .على هامش المؤتمر:ـ ثلاثة من الأدباء المرشحين لعضوية مجلس إدارة اتحاد كتاب مصر حضروا المؤتمر وأقاموا جلسة عمل في مقهى بالمدينة لمناقشة قضايا الاتحاد ، وهؤلاء الكتاب هم : القاصة هالة فهمي ، والشاعر عبدالمنعم عواد يوسف ، والشاعر احمد فؤاد. ـ المهندس محمد بحيري عامر رئيس مركز ومدينة ديرب نجم حضر جزءا من جلسات المؤتمر وقد رصع كلمته بأبيات شعرية وكان أكثر من احتفى به فتحي عقل والشاعر بدر بدير .ـ مصطفى السعدني رئيس إقليم شرق الدلتا الثقافي حضر مع اقتراب المؤتمر من نهايته ، وقال أن رسالة الشاعر نبيل مصيلحي التي نشرت بصحيفة " الجمهورية " بخصوص إنشاء قصر ثقافة ديرب نجم هي محل دراسة من الفنان احمد نوار رئيس الهيئة. بعدها ألقى السعدني قصيدة جديدة مكثفة اللغة ، ومثقلة بالدلالات بعنوان " موت العصافير" .ـ وزع الأدباء كتبهم على الحضور ، ومن بين الإصدارت التي وزعت " دموع وابتسامات " للشاعر بدر بدير ، و" ملامح التجربة الإبداعية عند بدر بدير " دراسة لثروت مكايد عبدالموجود .ـ وزع القاص فكري داود روايته الجديدة " عام جبلي جديد " ، كما وزع القاص الدسوقي البدحي مجموعته القصصية الأولى " صخب الصمت" .ـ طالب الكاتب بهي الدين عوض في مداخلة له بضرورة تذكر الأدباء الراحلين وضرب المثل بالشاعرالكبير الراحل محمد السنهوتي .ـ حضر أدباء من القاهرة والدقهلية ودمياط ، كما حضر عدد من قيادات شرق الدلتا الثقافية ، ومنهم اسماعيل سالم أمين الاقليم ، ومحمود أصلان مدير المكتب الفني ، ومن الزقازيق الشاعر أحمد سامي خاطر.ـ أعتذر الدكتور علي عبدالوهاب مطاع رئيس قسم الأدب والنقد بجامعة الأزهر عن الحضور ، وبالتالي لم تطرح دراسته وكانت تدورحول رواية " مكاشفات البحر الميت " لأحمد محمد عبده. ـ تستعد الزقازيق لعقد الدورة 15 من مهرجان الربيع الشعري كما تستعد لإصدار عدد آخر من سلسلة " خيول أدبية " .ـ ارتفع مبلغ تدعيم مؤتمر اليوم الواحد ليكون ألفا جنيه بدلا من القيمة السابقة التي تبلغ نصف هذا المبلغ.في نهاية التغطية أثمن جهود الأصدقاء بديرب نجم الذين استطاعوا بإخلاصهم وتفانيهم أن يضعوا مدينتهم " ديرب نجم " على خريطة الإبداع الأدبي المصري المعاصر الذي يحتدم بالحركة والتجدد والعنفوان.ديرب نجم 5 /3/2007
سمير الفيل شاعر وروائي وناقد عربي
سمير الفيل شاعر وروائي وناقد عربي
الأحد، 17 فبراير 2008
عشانك

من حتة طين
مخلوطة بمية نيلك جيت
وعشقت غناك ومواويلك
وعشقت الليل والنور
وعشقت النسمة
اللى تغازل وش الصفصافة
الضليلة
والعصفور الأخضر
المرفرف فوق أغصانها
يشبه عصافير الجنه
وعشقت
المسقى
بطحالبها
والبقرة اللى بتسبح فيها
وعشقت الخاله اللى بتزرع الحدود
بالتوم واللوبيا
وعشقت الصياد النيلى
وهو بيفرد قبل ادان الفجر
وبين احضان البرد
خيوط الجوبيا
وعشقت طيورك
مفروده على كل سطوحك
وعشقت جدودى
وهمه فاردين ع الحيط الخيط
لاجل حصيرة جبنه
وعشقت شتيمهم ليه
لما اصفى البراد من تفله
واكبه
عاوزين دور تانى منه
شاي مزر ود
ومغلي على نار أحلامهم
كانت أحلام مشروعه
لقمة عيش منزوعة الذله
وحتة أرض
يداعبوا فيها جمال الطله
يسقيها الجد
من عرقه
المتقرص ملح
ويورى العالم كله فنون الفلح
وينام ع الأرض
مزاجه تمام
لا يكون داين يوم لحد
ولا حتى يكون لحد مدين
فينام مرتاح البال
كانت أحلام مشروعه
لما يتوجه يدعاه لله
لأجل البقرة التعبانه تطيب
وتشاركه الناس فى دعاه
كانت أيام
عاشوا حافظين للعهد
العمر داكله
ما زاغوا فى يوم على حد
ولا بيحبوا حد يزوغ على حد
وإحنا الأحفاد
نتزايد زى السيل
ولا عدنا
بنعرف نركب ضهر الخيل
ولا نزرع أرض
العقل خلاص
تشتت بين الأوهام
أصبحنا رهينة
والجد خلاص
هنااااااااااااااااااااااااك....
بين الجدران الخرسانه
تهالك
لكن متمالك
وبيسأل جدى
ليه الواحد يلبس توب اكبر من توبه
انا ياما حكيت وقلت
ولا حد بيسمع
والحال.......... أوحال
وعصاية جدى خلاص
مش عادت قادره
ضربتها السوسه
وانزفت امى
لعدوى عروسه
ولأنى
حتة طين مخلوطه بمية نيلها
ولأنى عشقت ضحاها وليلها
ولأنى عشقت الغيط والبيت
ولأنى عشقت فداها الموت
ضحيت
السبت، 16 فبراير 2008
فراشــــــــــــــــــــــات

يبدو أن صوت أبى المرتفع وشجاره المستمر، يهيمن على كل لحظة من لحظات القيلولة، الناس تقيل، عدانا، ينفعل لأبسط الأشياء، بينما تظل امى تسترضيه، متحاشية الرد عليه
.......................
.أتسلل من الدار قاصدا ظل التوتة كل يوم عند جرف الترعة، ارمي بحصوات صغيرة في الماء، تستدير حتى تتسع كاتساع صوت أبى.
.....................
.تصل صرخات امى إلى اذنى، يسمعها الجميع، يهرعبعضهم لتهدئة الأمر، والبعض الأخر قد ملالتدخل،انسحب بوجهي للأرض، امسك بحجر كبير وارميه بعنف نحو الماء.
................
كعادتها تاخذنى من يدي، العب معها،تصنع فراشات من الصلصال،بينما أحاول فلا تخرج غير عقرب.
.............
.تدرك غضبى، تربت على كتفي، استشعر حنانها تقول : المرة الجاية تصنع فراشة .. استمر في محاولاتي.
..................
أخيرا نجحت في صنع الفراشة، لا اعرف ما الذى جعلني استشعر وجود تشابه بين ما صنعت وبين العقرب.
...............
.كنا قد رأينا الخالة أمينة وهى تصنع طائرة من البوص والغاب للواد محمود ابنها .. فررنا أن نصنع الطائرة.
..............
.جهزنا كل شيى من البوص والغاب والخيط المتين والشكاير البلاستيك والقماش القديم، - اختفينا عن الأعين، ورحنا نصنع الطائرة لسعني صوت أبى العالي، ملاني الغضب، واستعجلت إنهاء الأمر. .............
.خرجنا سويا .. بعدما علقت فراشاتها، كنت أنا الأخر قد علقت فراشتي الوحيدة..- ومن قمة منزل قديم، تركنا الخيط رويدا رويدا.. لمعت الفرحة في عيوننا . سمعت صرخت امى .. تتهادى في الأفق : يا لهوى العيال هتقع من فوق السطح .. نمنا على بطوننا، واختفينا عن الأنظار .رحنا نربط عصا متينة بطرف الخيط، لتتمكن من الطيران كالفراشات، فلا يستطيع احد إمساكنا
..................
تراجعنا عن الطيران، لا نعرف ما الذى جعلها تهبط هكذا بالرغم منا ، راحت تفتش عن فراشاتها، لم تجدها فرحت..قالت : طارت فراشاتي ..تغير وجهها فجأة .. كانت قد وجدت عقربا كبيرا متشبثا بأحد أعواد الغابقالت : عقربك أكل فراشاتي .. وراحت في بكاء شديد ..انسحبت حزينا .. لم اعد اكلم أحدا.. لائذا بأحد الأركان المتصدعة.
.........................
.كل يوم يقبل الناس، يصبح الشارع خاليا.. بينما يظل الأفق مشوشا بصوت أبى، لم يعد يتحرك احد لتهدئة الأمور
.................
كل يوم انسحب خارجا عبر غيطان الأرز إلى ظل التوتة، ارمي بأحجار كبيرة في الترعة، لم تعد تأت لتاخذنى معهابينما اذهب إلى المكان أخذا معي الطين محاولا صنع الفراشات
بل كنت مختبئا

بل كنت مختبئا
بل كنت مختبئا هناك
على الغصون الوارفات أهش همى
وأهادن الصبح المدجج بالظلام
تنام عينى
ينساب فى القلب ابتسام
فلا دموع ..
ولا قروح ولا تدنى
هيهات ترتاح العيون
لقد رأيتك ترجفين
وحيدة .....
وأنا على غصن التمني
فهششت همي
حلقت نحوك ساعة
لكن أجنحتي
تخلّت
ووقعت مغشيّا علىّ
فلا تظنّي بأن لا أحدا هناك
فلا تظنّي
قد كنت فى قيدي
فلا تظنّي
قد كنت فى قيدي
طليقا
لا جناح ولا سلاح ...
وربّما
قد كنت أنتظر الحياة
بأن تغنى
" فاعليات التعويض والتعديل فى رواية " ... واسمه المستحيل"

" فاعليات التعويض والتعديل فى رواية " ... واسمه المستحيل"
بقلم أحمد رشاد حسانين
مدخل :
" ... واسمه المستحيل " ، الرواية الأولى للكاتب محمود الديدامونى ، وهى تأتى وسط كم متنوع من الإنتاج الآدبى للمؤلف والمتضمن :-
ديواناً للفصحى ، مجموعتين قصصيتين ، وعدة دراسات نقدية ، وقد صدرت الرواية عن إقليم شرق الدلتا الثقافى ( فرع الشرقية ) عام 2007م.
تقع الرواية فى ست وسبعين صفحة من القطع المتوسط ، وقد شغلت هذه الصفحات ثلاثة وعشرين مقطعاً سردياً ، يشغل المقطع الواحد فى المتوسط ثلاثة صفحات أو أقل قليلاً وعلى ضوء ما سبق فإن النص يمكن أن يصنف كرواية قصيرة أو قصة طويلة " novella ".
، ويعضد هذا التصنيف ، محدوية الشخصيات وقلة الأحداث المتفاعلة واقعياً فى الفضاء بين الزمانى والمكانى للشخصيات .
ويطالعنا النص فى مدخل الرواية بإهداء يقول :-
" إلى بسمة .... ما زالت مهاجرة ".
ونلاحظ أن كلاً من المؤشر الإعلامى " العنوان " والإهداء ينقلان لنا الإيحاء " بالفقد " بصورة أو بأخرى ونحن نستشعر هذا الفقد من تلك الصياغة المقتصدة الحزينة للأهداء سواء أكانت " بسمة " هذه شخصاً أو معنى من معانى الفرح والبهجة وصياغة " بسمة " بصيغة التنكير يفيد الندرة والقلة.
وإذا وقفنا على عنوان النص ، " .... واسمه المستحيل " ، سنجد فى صياغته حذفاً مقصودا وبذلك يحل فيه فراغ يسمح بالتأويل.
فهل يكون تأويل هذا الحذف ، " لاوجود للفرح ووجوده اسمه المستحيل " ، وبذلك يكون الحذف قد وقع على المبتدأ " وجوده " ، وأن هذا الحذف الكتابى هو الصورة الشكلية لنفى وجود الفرح واقعياً فى حياة الراوى؟.
ونقول " الفرح " لأن شعور الإنسان به وإحساسه بالرضا إنما يأتى نتيجة اتساقه وتوازنه النفسى.
ونحن نذهب إلى هذا التأويل لأنه:
· يلتقى أولاً ، مع معنى الفقد الذى يطرحه الإهداء.
· وثانياً ، اعتمادا على ورود عبارات فى المتن الكتابى ترددت على لسان الراوى فى الصفحات :- ( 6 ، 12 ، 33 ، 40 ، 71 ، 58 ، 75 ) من المتن ، وذلك من مثل قوله :-
" وأنا لازالت أتحسس خطواتى باحثاً عن بعض ما تبقى من كفة الميزان " ... صــــ12
وقوله : " نعم سأبحث عن كفة الميزان حتى وإن دهسنى الناس " ...صــــ 33.
وقوله : " كفة الميزان لم يستطيع أحد التقاطها بعدما سقطت " صــــ40.
وقوله : " حتى أولئك الذين دهستهم الأقدام سقطوا مبعثرين مع كفة الميزان " ...صـــ71.
والمعروف أن " كفتى الميزان " تشيران مباشرة إلى معنى التساوى والتوازى فى حال اعتدالهما ، وتشيران لضد ذلك فى حال اختلالهما .ويؤيد هذا التفسير قول الراوى عن شيخه " نعمان " :-
" ولطالما كانت نصائح الإمام تنصب حول جسدى أيضاً ... الإنسان عنده كيان متكامل ... جسدا وروحاً ... لاينفصل أحدهما عن الآخر نعم ... أكد الشيخ على ضرورة أن يتوافق الإنسان مع نفسه ... الإنسان لايتجزأ ".
تلك هى إشكالية الراوى وهذه الرواية حدوث اختلال أو نوع من الانفصال بين العقل والنفس ، الروح والجسد ، وبالتالى فعودة التوازى بينهما معناه إدراك المرء مرحلة الرضا والسلام النفسى. ولما كانت أزمة الراوى متجذرة وذات أبعاد وجوانب متعددة أفقدته الرضا والسلام النفسى تماماً ، لذا فإن الحذف فى المؤشر الإعلامى للنص يقع على المبتدأ وهو " الفرح أو التوازن " وبذلك يصبح باقى المؤشر خبرا ( جملة أسمية) للمبتدأ المحذوف.
والسؤال : لماذا يؤمى المؤشر الإعلامى ولايصرح ، يضمر ولا يظهر ؟
نقول : ربما لانعدام التوازن والفرح تماماً فىحياته لدرجة تدفع الراوى لمحوه معنى وشكلاً.
o أو ربما لإحساس الراوى بأن هذا الرأى نتاج رؤية شخصية لاتعبر عن نسبية تحدث للتوازن لدى أشخاص كثيرين بصورة أو بأخرى.
o أو ربما لأنه يعبر عن حالة ذاتية نفسية عارضة لاتتسم بالثبات والديمومة.
وتظل الاحتمالات مفتوحة فى وجود هذا العنوان ذى الحذف المقصود للمبتدأ.
أما أسباب نفى التوازن السلمى فى حياة الراوى ، فإن المتن الكتابى بتكفل بالرواية عن ذلك وهو موضوع النص نفسه.
داخل المتن :
تتناول أحداث الرواية بصورة مركزة – مظاهر أزمة نفسية حادة يعانيها الراوى " عسران " ونلاحظ دلالة الاسم – وهذه الأزمة النفسية تكونت لديه نتيجة تراكم ظروف ومشكلات اجتماعية وأسرية، وتتعرض الأحداث أيضاً لمعاناته بغية التخلص من آثار هذه الأزمة ومحاولة مواجهة تداعياتها حيث إنها جعلت حياته جحيماً حتى أنه آثر الانكفاء على الذات ومحاولة الانتحار للتخلص من ألامه النفسية وإحساسه الشديد بالعجز وفقد القدرة على التحلى بالشجاعة فى التصدى لمشكلاته.
ومن بدايات النص يشخص الراوى حالته الجسمية والنفسية تشخيصاً موجزا نعرف من خلاله تبرمه بحياة المدنية التى كان يحلم بها وهو صغير ، ومكابدته لصداع مزمن عجزت معه المسكنات ، وتوتر دائم لم تفلح معه المهدئات وإحساس مسيطر بالخوف يتملكه ويسلمه كل ذلك إلى الوقوع فى نوبات هيستيرية.
ثم يبدأ الراوى فى سرد وقائع يستدعيها من الذاكرة ، وأخرى يستعيدها من ظروفه الحياتية الحاضرة والقريبة ، يتعرض فيها بالتفصيل لأسباب أزمته والإشارة إلى أعراضها ومتاعبها نحن إذن مع الرواية – بإزاء سياحة داخل تلافيف عالم الذات الراوية ، مصدرها المعاناة النفسية شديدة الوطأة والأثر ، تيارها يحكمه منطق الحركة النفسية المرتبطة بلحظة الحكى والتذكر ومن ثم الحركة الإيقاعية للمعنى والعبارة الخاصة بفعل التداعى ، وأخيرا فإن الغاية من تلك السياحة الداخلية هى الاعتراف التطهرى :
" منذ زمن وأنا أخطط لهذه اللحظة التى أستطيع البوح فيها ... هل أستطيع ؟
يساورنى إحساس بالخوف ... لكن يجب التمرد على ذلك افلن أستطيع البقاء هكذا ، أعانيه فى البيت وفى الشارع ... الشارع يمكنكم قراءته ومعرفته إذا أتيتم لزيارتى ، أما زوجتى ...هل تعلمون شيئاً عن زوجتى ...؟
إذا أتيتم ستعرفونها ..لا..لايمكن أن يعرفها أحدُُُ منكم ..إنها مخادعة ستخدعكم ..إن لها ألف وجه .. الوجه الحقيقى لا يعرفه غيرى ..نعم .. أعرفها جيداً أليست زوجتى ؟" صــ10.
البوح إذن هو البنية المركزية التى يقوم عليها هذا النص الروائى من حيث إنه يمثل مدخلاً ذا طابع اعترافى ، يقوم على وصف الحالة ورصد أسبابها ومحاولة طرح ما ينتج عن تعالق الخارجى والداخلى وتجادلهما – من حالات أو رؤى أو تهويمات – وما يترتب عليهما من نزعات وسلوكيات.
وإذا كانت الرواية يؤلفها ثلاثة وعشرون مقطعاً فإن ثلاثة عشر مقطعاً منها ، تسرد الأحداث بمنطق التذكر والتداعى فى حالة " الوعى " للراوى المتكلم ، بينما يقوم " اللاشعور " بسرد العشرة المقاطع الأخيرة ، وبالمعنى الفنى : فإن الراوى فى تلك المقاطع الأخيرة يلجأ إلى تقنيه " الحلم " عن طريق النوم أو الإغماء ليطلق اللاوعى من مكمنه ويخرجه من أنفاقه المظلمة تحقيقاً لأمرين :
1. إحداث عملية تنفيس للضغوط.
2. أن يتكفل اللاشعور بمواجهة أزمة الراوى بعد أن عجز عن مواجهتها بإرادته الواعية.
خاصة بعد تفاقم أزمته واشتدادها والتى مثلت فى نفس الوقت ذروة الحدث الروائى وعقدته.
وكان لابد للراوى من الخروج من تلك الأزمة واللحظة ( النفسية – الروائية ) ولم يكن أمامه من مخرج سوى أن يفزع لعالم اللاشعور.
الشخوص ، ملامح ودلالات :
وفى نص يسرده روايه من زواية التبئير الذاتى المأزوم ، كان لابد للشخصيات أن نخضع لذلك التقسيم الحدى بين الأبيض والأسود ، الأخيار والأشرار ، والشخوص الأولى يمثلهم أصدقاء الراوى :
الشيخ نعمان ، حمودة عبد الرافع ، فريد عثمان وابنه الصغير ضياء وأيضاً نلاحظ دلالات اختيار الأسماء لهذه الشخوص " نعمان ، حمودة ، فريد ، ضياء " أما القسم الثانى فيمثله : زوجته ( لم يذكر اسمها ) وحماته وزوجة عمه، ووفقاً لما جاء على لسان الراوى من ذكريات فإن أمه كانت له مصدرا للأمن والحنان المفقودين فى ظل حياتهم فى بيت عمه فى القرية وكفالته لهم تقريباً بالرغم من وجود أبيه ، أما موقفه تجاه أبيه فيكاد يكون محايداً.
وربما كان الراوى ( عسران ) أكثر توفيقاً فى رسمه لملامح شخصيته وإن تناولها من الداخل فقط بحكم عملية التذكر والتداعى ، كذلك تقديمه وعرضه لشخصية الزوجة والشيخ نعمان حيث قدما بصورتهما الإنسانية كما يمليها الواقع بتناقضاته.
وهو إذ يتحدث عن نفسه فى إطار من الاعتراف فحديثه كان لايخلو من الجرأة والصراحة ، إلا أن تنامى شخصيته وفعاليتها يتم فقط. وكما أشرنا على مستوى اللاشعور.
وبصفة عامة فإن تناول الراوى لشخوصه كان يتم لمصلحة شخصيته هو من حيث أثارها عليه.
وهو يقدم شخصية كل من زوجة العم وصديقيه حمودة عبد الرافع وفريد عثمان تقديماً موجزاً اللهم إلا فى مشهد واحد تحدث فيه حمودة مع الراوى والشيخ نعمان ، أما زوجة العم فقد تناولها فى مشهدين تقريباً بالحديث عنها بصيغة الغائب ولكنها مشهدان ينبئان بأثرهما السلبى عليه خاصة وأنه كما يروى- كان فى سنى الطفولة.
وهو إذ يروى بأسلوب اعترافى غايته تعرية النفس وتطهيرها من ضعفها وعجزها ، فإن ضمير المتكلم يحافظ على كثافته الحضورية فى السرد ، ولاتكاد تخلو منه فقرة من فقرات النص.
وهذا الحضور المكثف للضمير الراوى بصيغة المتكلم ، قد يكون مؤشراً على توحد المؤلف بالراوى الداخلى ، أو على الأقل – تعاطفه الواضح معه ، وبالرغم من ذلك فلا نستطيع أن نعتبر النص سيرة ذاتية أو صورة طبق الأصل من حياة المؤلف.
الفضاءان المكانى والزمانى :
ويبدأ زمن الاعتراف الروائى من المدينة حيث يعيش الراوى بعد أن فر إليها منذ مطالع شبابه هروباً من الفقر والقمع والإحساس بالغضب.
" كنت منبهراً بالمدينة..الكهرباء ،الأسفلت ،مياه الصنابير، وقد كانت لمبة الجاز تهيمن على مساءات القرية ، لم تكن أمى تمل من مسح زجاجتها حتى تضئ بوضوح أكثر " صــ5.
ولكن حياته فيها ما تلبث أن تتحول إلى جحيم إثر معاناته ضغوط زوجة متسلطة تمارس عليه الاستغلال الجسدى والاستلاب المعنوى مع حاجته الشديدة إلى الإحساس بالأمن والتعطش للحنان، ويضاعف خوفه إشفاقه الشديد على طفله الوحيد ضياء .النور الوحيد فى حياته.
ولما كانت هذه الزوجة تذكره بطفولة مقموعة مع نشأة متواضعة بالريف – نجده يرتد زمنياً إلى مشاهد القمع فى تلك الفترة ، ثم يعود مرة أخرى للمدينة مستأنفاً مسيرة من حياة المعاناة.
وبالرغم من الارتداء الزمنى والعودة ، لانجد تعييناً من الراوى للزمن أو تحديداً لسنوات معينة وكأنه يقول : إن حياة الراوى سلسلة ممتدة من المعاناة أو أن استغراقه فى أزماته المركبة أذهله عن تحديد تاريخى للزمن ، فأوقاته كلها زمن من المعاناة "زمن نفسى".
ويؤثر انشغاله واستغراقه على تناوله للمكان أيضاً فلا يقف بالتفصيل على ملامحه الخاصة أو العامة وإنما يكاد يعين المكان بذكر العلم الدال عليه ( الريف – المدنية ) وبعض المعالم النادرة كالمزارع ( فى الريف ) والشوارع والميادين ( فى المدينة ).
حصاد النشأة والتكوين :
ولقد نتج عن نشأته فى بيت عمه بالريف فى ظل قوامة من العم على أسرته بما فيهم الأب ، أن تعرض الصبى الصغير لأن يكون على حد تعبيره " ملطشة " لزوجة عمه وأولادها ولأن أمه وأباه كانا يريدان للحياة أن تستمر ، لذا فقد اضطرا إلى التنازل وتعودا على التجاهل عن أشياء كثيرة ومنها اضطهاد ابنهما ( الراوى ) وعقابه.
يقول الراوى عن عمه وزوجته :
" كان يتحكم فى كل شئ حتى أبى لم يكن ليعصى له أمرا ... ولم تكن أمى إلا تابعاً لأبى ، كانت أمى تشترى رضاه بشئ من الدهاء ، فى حين كانت زوجة عمى تنهرنى دائماً ... تتظاهر أمى بالموافقة على أسلوبها وما إن ندخل غرفتنا حتى تهدهدنى وتسمح على رأسى ... أبكى فى حضنها وأنام ".صــ26
وفى غمرة حياة الفقر والهوان ، يصاب الصبى ( الراوى ) بصدمة شديدة حين يفاجأ بزوجة عمه – أثناء لعبه مع بعض الأولاد فى المزارع – وهى تدخل كوخ أحد رجال القرية "عم سليم " متلصصة فى حذر شديد لتمارس معه الجنس :
" اقتر بنا من الكوخ المصنوع من الحطب ... كتمت أنفاسى ... وضعت أذنى على جدار الجوخ ... سمعت هسهسات مكتومة وتأوهات محمومة تغزو أذنى ... ساقنى الفضول إلى أكثر من ذلك ... وضعت عينى على ثقب موجود ، رأيت ... خرجت منى صرخة ، التف الأولاد حول الكوخ وراحوا يزفونهما "...صــ27.
منذ ذلك الحين تزداد زوجة العم اضطهادا للصبى الصغير وتمعن فى مطاردته حتى كره القرية والعيش فيها تحت سقف واحد يجمعه بهذه المرأة وما إن واتته فرصة استكمال تعليمه بالمدينة حتى أخذ قرارا باللاعودة.
ولقد خلفت هذه الصدمة ، رد فعل سلبى مبالغ فيه من قبل الراوى جعلته يتشكك فى نسبة أولاد عمه إليه فعلاً ، بل ويتشكك فى نسبته نفسه إلى أبيه وكلا الشكين لم يقم عليهما دليل.
وإذ تترك القرية فى نفس الصبى هذه الآثار والجروح لتستقر فى مكامن اللاوعى – تغدو المدينة له من عدة وجوه – ملاذا ومفزعاً ،فيفر إليها مستقراً بها ، لكن الراوى لا يقف على مساحة من حياته فى المدينة مسقطاً إياها ، واضعاً القارئ مباشرة أمام فترات الألم والمعاناة فى حياته مع زوجته ، وتثير معاملة زوجته رواسب الماضى وتوقظ فيه شعوره القديم بالقمع والخوف بل يزداد إحساسه بالخوف خاصة بعد إنجاب ابنه ضياء ... وتصير الحياة التى أحبها الراوى فى شبابه وحمل لها بعض الذكريات الجميلة- جحيماً لايطاق بعد أن وقع أسيرا لهذه الزوجة وألقت عليه المأسى ظلالها الكثيفة متمثلة فى فقد صديقه حمودة ووقوعه فريسة اليأس والإحباط نتيجة رفض أسرة حبيبته خطبتها له ، وموت صديقه فريد عثمان بعد أن وقع فريسة الهزال والمرض ثم وفاة الشيخ رضوان الذى كان بمثابة المرشد الروحى له وموضع ثقته وتقديره.
وتحت أثقال من جحيم إمراءة متسلطة تملك القوامة والتأثير وتبرع فى استخدام سلاح الفتنة والإغواء ( نقطة ضعف الراوى ) وافتقاده الرؤية والحسم جراء خوفه وتردده ، يلجأ الراوى للهروب من جحيمه بالانطواء أولاً ، ثم بمحاولة الانتحار للتخلص ليس من كراهيته للحياة ، وإنما من كراهيته لخوفه وضعفه وتردده .لقد كان كما يروى يخشى الموت حريصاً على الحياة.
وتنقذه زوجته من الموت فى اللحظات الأخيرة وتحرص على البقاء بجانبه حتى يعافى :
" لفت شالها حول أوردتى ... أحكمت الربط ، توقف النزف بعد برهة ... ابتسمت ... أمسكتنى بقوة ... قالت : سلامتك ... بينما قرأت فى يمينها كلمات متشفية كأنها تقول : لن تستطيع الفرار منى " ...صــ31.
ولما لم يستطيع ذلك بالفعل – خاصة إزاء جمالها وفتنتها اللذان جعلاه يرضخ مستسلماً منقاداً لرغباتها وأوامرها ونواهيها – عاد لكراهية نفسه ولجأ إلى الانطواء على ذاته منسحباً من الحياة وتمثل انسحابه فى تردده الدائم على المقابر – بالرغم من كراهيته للموت – وإحاطة نفسه بعالم الأموات والأرواح.
انفراج وهمى وحل مؤجل :
وفى إحدى لياليه المثقلة بالخوف والهموم يغفو وعى الراوى ويستيقظ اللاشعور وينفسح نطاق السرد ليصير مجالاً للإيهام – ويرى الراوى نفسه فى إحدى زياراته للمقابر وقد ارتاح لوجوده بها وأنس بأهلها بل صار لهم جاراً وصديقاً ، فنجدهم متعاطفين معه مقدرين لمأساته ، يحبونه ويختارونه قائداً عليهم برضا " روح " الشيخ رضوان ويشعر لأول مرة بذاته ويعدهم – فى عالمهم – بالإنجازات ويؤكدلهم سعيه لإقامة العدل وإشاعة السلام.
ولكنه يستغل قيادته للأموات فى الثأر من الأحياء والانتقام الشخصى ممن يظن أنهم ظلموه ويتعسف الراوى فى ردود فعله ويفقد السيطرة على شهوة الانتقام ورغبته المتعشطة للثأر فيحيل المدنية إلى فوضى وخراب ، وفى غمرة الفوضى العارمة التى تطيح ضمن ما تطيح بزوجته وحماته، ووسط صيحات الأرواح المفزعة التى جاست خلال المدنية يهرع الراوى إلى إنقاذ ابنه ضياء من براثن اليته والضياع بين أطلال مدينة خربة، ويعود بعد طرده من عالم الأموات الذى رفض منطقه – إلى بيته مجهداً قد نال منه الإعياء ليرتمى على سريره ويتوغل بنا أكثر فى عالمه الباطن ليرى أطيافاً من ملائكة يقف وسطها ابنه ضياء فيشعر بالراحة ثم يعقبها أشباحاً مفزعة تطارده ولا يستطيع منها فكاكا وتختنق فى حلقه صرخات الخوف والفزع فيفيق ملتقطا أنفاسه يبحث عن نفسه،وقد بدأ يسترد وعيه ويسألها عن وجودها وأين هى منه وقد راح بعيداً ؟ فتجيبه بأنها انتظرت وتريثت ولعل ما رآه يعنى له شيئاً،يستسلم الراوى لحجتها ويسقط رأسه على وسادته مقاوماً ما تبقى من ليلته.
وبهذا المشهد الأخير ينهى الراوى عملية التداعى والاعتراف مؤجلاً الحل لحين إعادة النظر واستبصار الوقائع والعواقب.
ومعنى ما سبق أن الراوى يظل مأزوماً ، وأنه مازال فى مرحلة الأمانى المجردة واقعياً ،ولذا يضطر اللاشعور للحضور كنوع من التعديل والتعويض رأبا لصدعه النفسى وسلامه الروحى.
نحن إذن إزاء نهاية مفتوحة كما كنا مع عنوان النص مع مؤشر مفتوح.
والكاتب إذ يعرض روايته على نحو ما أوجزنا وإن كان الإيجاز خاصة مع فنون السرد دائماً ما يكون خائناً ومخلاً – إلا أنه يتبنى رؤية فرويدية حيث العلاج بأساليب التحليل النفسى اعتمادا على تفسير الأحلام بالرغم أن مفاهيم الأمراض النفسية وأساليب علاجها وحل مشكلاتها قد قطعت أشواطاً بعيدة بدءاً بكارل يونج تلميذ فرويد الذى طور نظرية أستاذه مرورا بأدلر وبافلوف ومينجز وواطسون وسكنر ،وليس انتهاءً بجان بياجيه صاحب نظريات علم النفس الارتقائى.
وللمؤلف حريته ومشروعيته تماماً فى اختيار ما يراه مناسباً لرؤيته من حلول سواء كانت حلولاً نفسية أو روائية ، كما أن للمتلقى الحرية أيضاً فى عرض وجهة نظره واقتراح رؤى أخرى لأزمة " الراوى " وعقدته، ولعل تعدد الرؤى والمقترحات هو السبيل الأجدى لطرح حلول أنجع للمشكلة وللمشاكل الإنسانية والروائية الفنية بصفة خاصة.
أحمد رشاد حسانين
بورسعيد فى ديسمبر 2007م
بقلم أحمد رشاد حسانين
مدخل :
" ... واسمه المستحيل " ، الرواية الأولى للكاتب محمود الديدامونى ، وهى تأتى وسط كم متنوع من الإنتاج الآدبى للمؤلف والمتضمن :-
ديواناً للفصحى ، مجموعتين قصصيتين ، وعدة دراسات نقدية ، وقد صدرت الرواية عن إقليم شرق الدلتا الثقافى ( فرع الشرقية ) عام 2007م.
تقع الرواية فى ست وسبعين صفحة من القطع المتوسط ، وقد شغلت هذه الصفحات ثلاثة وعشرين مقطعاً سردياً ، يشغل المقطع الواحد فى المتوسط ثلاثة صفحات أو أقل قليلاً وعلى ضوء ما سبق فإن النص يمكن أن يصنف كرواية قصيرة أو قصة طويلة " novella ".
، ويعضد هذا التصنيف ، محدوية الشخصيات وقلة الأحداث المتفاعلة واقعياً فى الفضاء بين الزمانى والمكانى للشخصيات .
ويطالعنا النص فى مدخل الرواية بإهداء يقول :-
" إلى بسمة .... ما زالت مهاجرة ".
ونلاحظ أن كلاً من المؤشر الإعلامى " العنوان " والإهداء ينقلان لنا الإيحاء " بالفقد " بصورة أو بأخرى ونحن نستشعر هذا الفقد من تلك الصياغة المقتصدة الحزينة للأهداء سواء أكانت " بسمة " هذه شخصاً أو معنى من معانى الفرح والبهجة وصياغة " بسمة " بصيغة التنكير يفيد الندرة والقلة.
وإذا وقفنا على عنوان النص ، " .... واسمه المستحيل " ، سنجد فى صياغته حذفاً مقصودا وبذلك يحل فيه فراغ يسمح بالتأويل.
فهل يكون تأويل هذا الحذف ، " لاوجود للفرح ووجوده اسمه المستحيل " ، وبذلك يكون الحذف قد وقع على المبتدأ " وجوده " ، وأن هذا الحذف الكتابى هو الصورة الشكلية لنفى وجود الفرح واقعياً فى حياة الراوى؟.
ونقول " الفرح " لأن شعور الإنسان به وإحساسه بالرضا إنما يأتى نتيجة اتساقه وتوازنه النفسى.
ونحن نذهب إلى هذا التأويل لأنه:
· يلتقى أولاً ، مع معنى الفقد الذى يطرحه الإهداء.
· وثانياً ، اعتمادا على ورود عبارات فى المتن الكتابى ترددت على لسان الراوى فى الصفحات :- ( 6 ، 12 ، 33 ، 40 ، 71 ، 58 ، 75 ) من المتن ، وذلك من مثل قوله :-
" وأنا لازالت أتحسس خطواتى باحثاً عن بعض ما تبقى من كفة الميزان " ... صــــ12
وقوله : " نعم سأبحث عن كفة الميزان حتى وإن دهسنى الناس " ...صــــ 33.
وقوله : " كفة الميزان لم يستطيع أحد التقاطها بعدما سقطت " صــــ40.
وقوله : " حتى أولئك الذين دهستهم الأقدام سقطوا مبعثرين مع كفة الميزان " ...صـــ71.
والمعروف أن " كفتى الميزان " تشيران مباشرة إلى معنى التساوى والتوازى فى حال اعتدالهما ، وتشيران لضد ذلك فى حال اختلالهما .ويؤيد هذا التفسير قول الراوى عن شيخه " نعمان " :-
" ولطالما كانت نصائح الإمام تنصب حول جسدى أيضاً ... الإنسان عنده كيان متكامل ... جسدا وروحاً ... لاينفصل أحدهما عن الآخر نعم ... أكد الشيخ على ضرورة أن يتوافق الإنسان مع نفسه ... الإنسان لايتجزأ ".
تلك هى إشكالية الراوى وهذه الرواية حدوث اختلال أو نوع من الانفصال بين العقل والنفس ، الروح والجسد ، وبالتالى فعودة التوازى بينهما معناه إدراك المرء مرحلة الرضا والسلام النفسى. ولما كانت أزمة الراوى متجذرة وذات أبعاد وجوانب متعددة أفقدته الرضا والسلام النفسى تماماً ، لذا فإن الحذف فى المؤشر الإعلامى للنص يقع على المبتدأ وهو " الفرح أو التوازن " وبذلك يصبح باقى المؤشر خبرا ( جملة أسمية) للمبتدأ المحذوف.
والسؤال : لماذا يؤمى المؤشر الإعلامى ولايصرح ، يضمر ولا يظهر ؟
نقول : ربما لانعدام التوازن والفرح تماماً فىحياته لدرجة تدفع الراوى لمحوه معنى وشكلاً.
o أو ربما لإحساس الراوى بأن هذا الرأى نتاج رؤية شخصية لاتعبر عن نسبية تحدث للتوازن لدى أشخاص كثيرين بصورة أو بأخرى.
o أو ربما لأنه يعبر عن حالة ذاتية نفسية عارضة لاتتسم بالثبات والديمومة.
وتظل الاحتمالات مفتوحة فى وجود هذا العنوان ذى الحذف المقصود للمبتدأ.
أما أسباب نفى التوازن السلمى فى حياة الراوى ، فإن المتن الكتابى بتكفل بالرواية عن ذلك وهو موضوع النص نفسه.
داخل المتن :
تتناول أحداث الرواية بصورة مركزة – مظاهر أزمة نفسية حادة يعانيها الراوى " عسران " ونلاحظ دلالة الاسم – وهذه الأزمة النفسية تكونت لديه نتيجة تراكم ظروف ومشكلات اجتماعية وأسرية، وتتعرض الأحداث أيضاً لمعاناته بغية التخلص من آثار هذه الأزمة ومحاولة مواجهة تداعياتها حيث إنها جعلت حياته جحيماً حتى أنه آثر الانكفاء على الذات ومحاولة الانتحار للتخلص من ألامه النفسية وإحساسه الشديد بالعجز وفقد القدرة على التحلى بالشجاعة فى التصدى لمشكلاته.
ومن بدايات النص يشخص الراوى حالته الجسمية والنفسية تشخيصاً موجزا نعرف من خلاله تبرمه بحياة المدنية التى كان يحلم بها وهو صغير ، ومكابدته لصداع مزمن عجزت معه المسكنات ، وتوتر دائم لم تفلح معه المهدئات وإحساس مسيطر بالخوف يتملكه ويسلمه كل ذلك إلى الوقوع فى نوبات هيستيرية.
ثم يبدأ الراوى فى سرد وقائع يستدعيها من الذاكرة ، وأخرى يستعيدها من ظروفه الحياتية الحاضرة والقريبة ، يتعرض فيها بالتفصيل لأسباب أزمته والإشارة إلى أعراضها ومتاعبها نحن إذن مع الرواية – بإزاء سياحة داخل تلافيف عالم الذات الراوية ، مصدرها المعاناة النفسية شديدة الوطأة والأثر ، تيارها يحكمه منطق الحركة النفسية المرتبطة بلحظة الحكى والتذكر ومن ثم الحركة الإيقاعية للمعنى والعبارة الخاصة بفعل التداعى ، وأخيرا فإن الغاية من تلك السياحة الداخلية هى الاعتراف التطهرى :
" منذ زمن وأنا أخطط لهذه اللحظة التى أستطيع البوح فيها ... هل أستطيع ؟
يساورنى إحساس بالخوف ... لكن يجب التمرد على ذلك افلن أستطيع البقاء هكذا ، أعانيه فى البيت وفى الشارع ... الشارع يمكنكم قراءته ومعرفته إذا أتيتم لزيارتى ، أما زوجتى ...هل تعلمون شيئاً عن زوجتى ...؟
إذا أتيتم ستعرفونها ..لا..لايمكن أن يعرفها أحدُُُ منكم ..إنها مخادعة ستخدعكم ..إن لها ألف وجه .. الوجه الحقيقى لا يعرفه غيرى ..نعم .. أعرفها جيداً أليست زوجتى ؟" صــ10.
البوح إذن هو البنية المركزية التى يقوم عليها هذا النص الروائى من حيث إنه يمثل مدخلاً ذا طابع اعترافى ، يقوم على وصف الحالة ورصد أسبابها ومحاولة طرح ما ينتج عن تعالق الخارجى والداخلى وتجادلهما – من حالات أو رؤى أو تهويمات – وما يترتب عليهما من نزعات وسلوكيات.
وإذا كانت الرواية يؤلفها ثلاثة وعشرون مقطعاً فإن ثلاثة عشر مقطعاً منها ، تسرد الأحداث بمنطق التذكر والتداعى فى حالة " الوعى " للراوى المتكلم ، بينما يقوم " اللاشعور " بسرد العشرة المقاطع الأخيرة ، وبالمعنى الفنى : فإن الراوى فى تلك المقاطع الأخيرة يلجأ إلى تقنيه " الحلم " عن طريق النوم أو الإغماء ليطلق اللاوعى من مكمنه ويخرجه من أنفاقه المظلمة تحقيقاً لأمرين :
1. إحداث عملية تنفيس للضغوط.
2. أن يتكفل اللاشعور بمواجهة أزمة الراوى بعد أن عجز عن مواجهتها بإرادته الواعية.
خاصة بعد تفاقم أزمته واشتدادها والتى مثلت فى نفس الوقت ذروة الحدث الروائى وعقدته.
وكان لابد للراوى من الخروج من تلك الأزمة واللحظة ( النفسية – الروائية ) ولم يكن أمامه من مخرج سوى أن يفزع لعالم اللاشعور.
الشخوص ، ملامح ودلالات :
وفى نص يسرده روايه من زواية التبئير الذاتى المأزوم ، كان لابد للشخصيات أن نخضع لذلك التقسيم الحدى بين الأبيض والأسود ، الأخيار والأشرار ، والشخوص الأولى يمثلهم أصدقاء الراوى :
الشيخ نعمان ، حمودة عبد الرافع ، فريد عثمان وابنه الصغير ضياء وأيضاً نلاحظ دلالات اختيار الأسماء لهذه الشخوص " نعمان ، حمودة ، فريد ، ضياء " أما القسم الثانى فيمثله : زوجته ( لم يذكر اسمها ) وحماته وزوجة عمه، ووفقاً لما جاء على لسان الراوى من ذكريات فإن أمه كانت له مصدرا للأمن والحنان المفقودين فى ظل حياتهم فى بيت عمه فى القرية وكفالته لهم تقريباً بالرغم من وجود أبيه ، أما موقفه تجاه أبيه فيكاد يكون محايداً.
وربما كان الراوى ( عسران ) أكثر توفيقاً فى رسمه لملامح شخصيته وإن تناولها من الداخل فقط بحكم عملية التذكر والتداعى ، كذلك تقديمه وعرضه لشخصية الزوجة والشيخ نعمان حيث قدما بصورتهما الإنسانية كما يمليها الواقع بتناقضاته.
وهو إذ يتحدث عن نفسه فى إطار من الاعتراف فحديثه كان لايخلو من الجرأة والصراحة ، إلا أن تنامى شخصيته وفعاليتها يتم فقط. وكما أشرنا على مستوى اللاشعور.
وبصفة عامة فإن تناول الراوى لشخوصه كان يتم لمصلحة شخصيته هو من حيث أثارها عليه.
وهو يقدم شخصية كل من زوجة العم وصديقيه حمودة عبد الرافع وفريد عثمان تقديماً موجزاً اللهم إلا فى مشهد واحد تحدث فيه حمودة مع الراوى والشيخ نعمان ، أما زوجة العم فقد تناولها فى مشهدين تقريباً بالحديث عنها بصيغة الغائب ولكنها مشهدان ينبئان بأثرهما السلبى عليه خاصة وأنه كما يروى- كان فى سنى الطفولة.
وهو إذ يروى بأسلوب اعترافى غايته تعرية النفس وتطهيرها من ضعفها وعجزها ، فإن ضمير المتكلم يحافظ على كثافته الحضورية فى السرد ، ولاتكاد تخلو منه فقرة من فقرات النص.
وهذا الحضور المكثف للضمير الراوى بصيغة المتكلم ، قد يكون مؤشراً على توحد المؤلف بالراوى الداخلى ، أو على الأقل – تعاطفه الواضح معه ، وبالرغم من ذلك فلا نستطيع أن نعتبر النص سيرة ذاتية أو صورة طبق الأصل من حياة المؤلف.
الفضاءان المكانى والزمانى :
ويبدأ زمن الاعتراف الروائى من المدينة حيث يعيش الراوى بعد أن فر إليها منذ مطالع شبابه هروباً من الفقر والقمع والإحساس بالغضب.
" كنت منبهراً بالمدينة..الكهرباء ،الأسفلت ،مياه الصنابير، وقد كانت لمبة الجاز تهيمن على مساءات القرية ، لم تكن أمى تمل من مسح زجاجتها حتى تضئ بوضوح أكثر " صــ5.
ولكن حياته فيها ما تلبث أن تتحول إلى جحيم إثر معاناته ضغوط زوجة متسلطة تمارس عليه الاستغلال الجسدى والاستلاب المعنوى مع حاجته الشديدة إلى الإحساس بالأمن والتعطش للحنان، ويضاعف خوفه إشفاقه الشديد على طفله الوحيد ضياء .النور الوحيد فى حياته.
ولما كانت هذه الزوجة تذكره بطفولة مقموعة مع نشأة متواضعة بالريف – نجده يرتد زمنياً إلى مشاهد القمع فى تلك الفترة ، ثم يعود مرة أخرى للمدينة مستأنفاً مسيرة من حياة المعاناة.
وبالرغم من الارتداء الزمنى والعودة ، لانجد تعييناً من الراوى للزمن أو تحديداً لسنوات معينة وكأنه يقول : إن حياة الراوى سلسلة ممتدة من المعاناة أو أن استغراقه فى أزماته المركبة أذهله عن تحديد تاريخى للزمن ، فأوقاته كلها زمن من المعاناة "زمن نفسى".
ويؤثر انشغاله واستغراقه على تناوله للمكان أيضاً فلا يقف بالتفصيل على ملامحه الخاصة أو العامة وإنما يكاد يعين المكان بذكر العلم الدال عليه ( الريف – المدنية ) وبعض المعالم النادرة كالمزارع ( فى الريف ) والشوارع والميادين ( فى المدينة ).
حصاد النشأة والتكوين :
ولقد نتج عن نشأته فى بيت عمه بالريف فى ظل قوامة من العم على أسرته بما فيهم الأب ، أن تعرض الصبى الصغير لأن يكون على حد تعبيره " ملطشة " لزوجة عمه وأولادها ولأن أمه وأباه كانا يريدان للحياة أن تستمر ، لذا فقد اضطرا إلى التنازل وتعودا على التجاهل عن أشياء كثيرة ومنها اضطهاد ابنهما ( الراوى ) وعقابه.
يقول الراوى عن عمه وزوجته :
" كان يتحكم فى كل شئ حتى أبى لم يكن ليعصى له أمرا ... ولم تكن أمى إلا تابعاً لأبى ، كانت أمى تشترى رضاه بشئ من الدهاء ، فى حين كانت زوجة عمى تنهرنى دائماً ... تتظاهر أمى بالموافقة على أسلوبها وما إن ندخل غرفتنا حتى تهدهدنى وتسمح على رأسى ... أبكى فى حضنها وأنام ".صــ26
وفى غمرة حياة الفقر والهوان ، يصاب الصبى ( الراوى ) بصدمة شديدة حين يفاجأ بزوجة عمه – أثناء لعبه مع بعض الأولاد فى المزارع – وهى تدخل كوخ أحد رجال القرية "عم سليم " متلصصة فى حذر شديد لتمارس معه الجنس :
" اقتر بنا من الكوخ المصنوع من الحطب ... كتمت أنفاسى ... وضعت أذنى على جدار الجوخ ... سمعت هسهسات مكتومة وتأوهات محمومة تغزو أذنى ... ساقنى الفضول إلى أكثر من ذلك ... وضعت عينى على ثقب موجود ، رأيت ... خرجت منى صرخة ، التف الأولاد حول الكوخ وراحوا يزفونهما "...صــ27.
منذ ذلك الحين تزداد زوجة العم اضطهادا للصبى الصغير وتمعن فى مطاردته حتى كره القرية والعيش فيها تحت سقف واحد يجمعه بهذه المرأة وما إن واتته فرصة استكمال تعليمه بالمدينة حتى أخذ قرارا باللاعودة.
ولقد خلفت هذه الصدمة ، رد فعل سلبى مبالغ فيه من قبل الراوى جعلته يتشكك فى نسبة أولاد عمه إليه فعلاً ، بل ويتشكك فى نسبته نفسه إلى أبيه وكلا الشكين لم يقم عليهما دليل.
وإذ تترك القرية فى نفس الصبى هذه الآثار والجروح لتستقر فى مكامن اللاوعى – تغدو المدينة له من عدة وجوه – ملاذا ومفزعاً ،فيفر إليها مستقراً بها ، لكن الراوى لا يقف على مساحة من حياته فى المدينة مسقطاً إياها ، واضعاً القارئ مباشرة أمام فترات الألم والمعاناة فى حياته مع زوجته ، وتثير معاملة زوجته رواسب الماضى وتوقظ فيه شعوره القديم بالقمع والخوف بل يزداد إحساسه بالخوف خاصة بعد إنجاب ابنه ضياء ... وتصير الحياة التى أحبها الراوى فى شبابه وحمل لها بعض الذكريات الجميلة- جحيماً لايطاق بعد أن وقع أسيرا لهذه الزوجة وألقت عليه المأسى ظلالها الكثيفة متمثلة فى فقد صديقه حمودة ووقوعه فريسة اليأس والإحباط نتيجة رفض أسرة حبيبته خطبتها له ، وموت صديقه فريد عثمان بعد أن وقع فريسة الهزال والمرض ثم وفاة الشيخ رضوان الذى كان بمثابة المرشد الروحى له وموضع ثقته وتقديره.
وتحت أثقال من جحيم إمراءة متسلطة تملك القوامة والتأثير وتبرع فى استخدام سلاح الفتنة والإغواء ( نقطة ضعف الراوى ) وافتقاده الرؤية والحسم جراء خوفه وتردده ، يلجأ الراوى للهروب من جحيمه بالانطواء أولاً ، ثم بمحاولة الانتحار للتخلص ليس من كراهيته للحياة ، وإنما من كراهيته لخوفه وضعفه وتردده .لقد كان كما يروى يخشى الموت حريصاً على الحياة.
وتنقذه زوجته من الموت فى اللحظات الأخيرة وتحرص على البقاء بجانبه حتى يعافى :
" لفت شالها حول أوردتى ... أحكمت الربط ، توقف النزف بعد برهة ... ابتسمت ... أمسكتنى بقوة ... قالت : سلامتك ... بينما قرأت فى يمينها كلمات متشفية كأنها تقول : لن تستطيع الفرار منى " ...صــ31.
ولما لم يستطيع ذلك بالفعل – خاصة إزاء جمالها وفتنتها اللذان جعلاه يرضخ مستسلماً منقاداً لرغباتها وأوامرها ونواهيها – عاد لكراهية نفسه ولجأ إلى الانطواء على ذاته منسحباً من الحياة وتمثل انسحابه فى تردده الدائم على المقابر – بالرغم من كراهيته للموت – وإحاطة نفسه بعالم الأموات والأرواح.
انفراج وهمى وحل مؤجل :
وفى إحدى لياليه المثقلة بالخوف والهموم يغفو وعى الراوى ويستيقظ اللاشعور وينفسح نطاق السرد ليصير مجالاً للإيهام – ويرى الراوى نفسه فى إحدى زياراته للمقابر وقد ارتاح لوجوده بها وأنس بأهلها بل صار لهم جاراً وصديقاً ، فنجدهم متعاطفين معه مقدرين لمأساته ، يحبونه ويختارونه قائداً عليهم برضا " روح " الشيخ رضوان ويشعر لأول مرة بذاته ويعدهم – فى عالمهم – بالإنجازات ويؤكدلهم سعيه لإقامة العدل وإشاعة السلام.
ولكنه يستغل قيادته للأموات فى الثأر من الأحياء والانتقام الشخصى ممن يظن أنهم ظلموه ويتعسف الراوى فى ردود فعله ويفقد السيطرة على شهوة الانتقام ورغبته المتعشطة للثأر فيحيل المدنية إلى فوضى وخراب ، وفى غمرة الفوضى العارمة التى تطيح ضمن ما تطيح بزوجته وحماته، ووسط صيحات الأرواح المفزعة التى جاست خلال المدنية يهرع الراوى إلى إنقاذ ابنه ضياء من براثن اليته والضياع بين أطلال مدينة خربة، ويعود بعد طرده من عالم الأموات الذى رفض منطقه – إلى بيته مجهداً قد نال منه الإعياء ليرتمى على سريره ويتوغل بنا أكثر فى عالمه الباطن ليرى أطيافاً من ملائكة يقف وسطها ابنه ضياء فيشعر بالراحة ثم يعقبها أشباحاً مفزعة تطارده ولا يستطيع منها فكاكا وتختنق فى حلقه صرخات الخوف والفزع فيفيق ملتقطا أنفاسه يبحث عن نفسه،وقد بدأ يسترد وعيه ويسألها عن وجودها وأين هى منه وقد راح بعيداً ؟ فتجيبه بأنها انتظرت وتريثت ولعل ما رآه يعنى له شيئاً،يستسلم الراوى لحجتها ويسقط رأسه على وسادته مقاوماً ما تبقى من ليلته.
وبهذا المشهد الأخير ينهى الراوى عملية التداعى والاعتراف مؤجلاً الحل لحين إعادة النظر واستبصار الوقائع والعواقب.
ومعنى ما سبق أن الراوى يظل مأزوماً ، وأنه مازال فى مرحلة الأمانى المجردة واقعياً ،ولذا يضطر اللاشعور للحضور كنوع من التعديل والتعويض رأبا لصدعه النفسى وسلامه الروحى.
نحن إذن إزاء نهاية مفتوحة كما كنا مع عنوان النص مع مؤشر مفتوح.
والكاتب إذ يعرض روايته على نحو ما أوجزنا وإن كان الإيجاز خاصة مع فنون السرد دائماً ما يكون خائناً ومخلاً – إلا أنه يتبنى رؤية فرويدية حيث العلاج بأساليب التحليل النفسى اعتمادا على تفسير الأحلام بالرغم أن مفاهيم الأمراض النفسية وأساليب علاجها وحل مشكلاتها قد قطعت أشواطاً بعيدة بدءاً بكارل يونج تلميذ فرويد الذى طور نظرية أستاذه مرورا بأدلر وبافلوف ومينجز وواطسون وسكنر ،وليس انتهاءً بجان بياجيه صاحب نظريات علم النفس الارتقائى.
وللمؤلف حريته ومشروعيته تماماً فى اختيار ما يراه مناسباً لرؤيته من حلول سواء كانت حلولاً نفسية أو روائية ، كما أن للمتلقى الحرية أيضاً فى عرض وجهة نظره واقتراح رؤى أخرى لأزمة " الراوى " وعقدته، ولعل تعدد الرؤى والمقترحات هو السبيل الأجدى لطرح حلول أنجع للمشكلة وللمشاكل الإنسانية والروائية الفنية بصفة خاصة.
أحمد رشاد حسانين
بورسعيد فى ديسمبر 2007م
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)