
الشاعر محمد سليم الدسوقى
إيقاع الكلمة ... إيقاع البيئة
بقلم / محمود الديدامونى
إيقاع الكلمة ... إيقاع البيئة
بقلم / محمود الديدامونى
سوف أبدأ الحديث عن الشاعر محمد سليم الدسوقى من منطلق القدرة لديه على ضبط إيقاع الكلمات بطريقة لافتة للنظر ، وهو ما يجعل القارئ يذهب معه ، وقد لا ينشغل كثيرا بالمحتوى ، الذى هو فى واقع الأمر يحمل دلالات كثيرة ويعبر عن قدرات خاصة للشاعر ، وهو ما قلته للشاعر بالفعل عند إحساسه بالإهمال النقدى الواضح لكتاباته التى قدم فيها جهدا خارقا ورؤية غاية فى الأهمية وتجربة أستطيع أن أقول أنها متفردة ، تختلف كثيرا عن المألوف فى صالوناتنا الشعرية ، ولعل شعوره بالتجاهل النقدى لم يكن حجر عثرة فى طريق مواصلته للكتابة ، فأخذ يعد ديوانا بعد الآخر ، فى كل ديوان تجد متعة مضافة فى تجربة الدسوقى ، ولعل ذلك يدفعنا لتبنى رؤية ( مالارميه ) فى تعريفه للشعر حيث يرى ..
إن الشعر هو التعبير باللغة البشرية وقد أرجعت إلى إيقاعها الأساس، إيقاع المعنى الغامض لمظاهر الوجود، بمعنى أن شرط الشعر ينبع من اكتساب لغته إيقاعاً خاصاً يتشكل من قوة الغموض في الطبقات العميقة للمعنى، تلك التي تحاول تفسير مظاهر الوجود المعقدة تفسيراً شعرياً، إلا أن دخول موسيقى الشعر بوصفها نظاماً قائماً على أسس وقواعد وقوانين منطقية ورياضية زاد من انتظام فعالية البنية الإيقاعية في النص الشعري، وفسّر في الوقت نفسه إشكالية الغموض والقوة فيه، ونقلها من فضائها السحري الغيبي إلى حيث تشتغل أدائياً في بنية القول الشعري، متجاوزة في ذلك الوظيفة التقليدية الصرف للإيقاع.
هذا النظام الجديد بقوانينه ونظمه وقواعده المحددة الواضحة التي تنطوي على إمكانات قابلة للانكشاف بمرور الزمن وتعقيد التجربة الشعرية وتعميقها، يتقدم بوصفه بنية رمزية تنتزع مفاتيحها من شبكة الدلالات التي تمتزج بها، وتنقلها من شكل الحياد في حدود واقعها الرياضي المقنن إلى صورة الانحياز المتضمن استنباط كل عناصر الحياة والإبداع والتجول في هذا الواقع المقنن، وجعله جزءاً متفاعلاً في التجربة.
إن المهمة التقليدية التي ينهض بها الشاعر في محاولة إيجاد محاورة بين إيقاع الدلالة ودلالة الإيقاع، تبدو الآن غير كافية تماماً إذا ما أدركنا سر الارتباط الحيوي بين الشعر والموسيقى والعلاقة العضوية بينهما، بوصف أن الإيقاع المتولد عن هذا التداخل يعد مناخاً حيوياً يوفر لمنظومة الدلالات المتشكلة من جوهر المعنى الشعري قدرة أكبر على التمظهر واتساع الحدود.
إن المعنى لا يتحول من نثري محدد إلى شعري مطلق إلا من خلال اشتغال بنية إيقاعية، تسهم في إحداث هذا التحول الخطير في شكل اللغة وطاقاتها الدلالية، وصولاً إلى التعبير عن الظلال الوجدانية للدلالات.
من هنا يمكن التأكيد على أن أي خلل في الموازنة الحرة بين إيقاع الدلالة ودلالة الإيقاع يصاحبه شرخ في شعرية القصيدة، يؤدي ضرورة إلى خلخلة نظمها وقوانينها.
يمثل الصوت أصغر وحدة إيقاعية في المفردة الداخلية في نسيج القصيدة الشعرية، ويكتسب في دخوله الشعري قيمة إيقاعية مضافة، من خلال الفعاليات التي تنهض بها مجموعة الأصوات المتجانسة والمتناثرة، وهي تؤلف موجهات تقارب قيما ًدلالية معينة، لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال إقصاء إيقاع المفردة الشعرية عن محتواها الدلالي.
وإذا كانت هذه العلاقة يكتنفها الكثير من الغموض والسرية في صورتها المجردة غير الشعرية، فإنها في الشعر تتجلى بكامل قوتها وعطائها، إذ أن للشعر قوته في كشف سرية العلاقة وإبانة غموض آلية التوصل بين معنى الصوت وصوت المعنى فيها.
وتظهر قوة الشعر الكاملة هذه في الطاقة التي ينطوي عليها الصوت مشرباً بالدلالة، وبقدر ما يكون هناك تجاوب صوتي فإنه يسهم في إحداث موازنة سيميائية دلالية، كما أن الجرس الموسيقي وهو يتشكل باندفاعات صوتية ذات صورة أكثر تعقيداً من الصوت المجرد، فإنه يشتغل على تصوير فضاء المعنى، ويعمل الإيقاع بوصفه المرحلة الصوتية الأكثر نضجاً وصيرورة على دعم هذا الفضاء من خلال إنتاج الفعل الصوتي في النص.
إن طبيعة التكون والنمو المحوري للدلالات في النص تفرض على الأصوات المؤلفة لها طبيعة السعة والعمق، بما يحقق تناسباً حياً تتمخض عنه البنية الإيقاعية الخاصة بالنص.
ويبدأ هذا التكون من نقطة "بؤرية" تلتقي فيها بؤرة المعنى مع بؤرة الصوت، ويتم الاتحاد بينهما في منطقة الشعر الغامضة، وباكتساب هذا الاتحاد قوته الشعرية تندفع بؤرة المعنى نحو التخلق الكامل بالتجربة، ومن ثم تقديم مستويات دلالية جديدة مشبعة بالتعدد والاحتمال يصاحبها تطور وتعقيد وعمق في البنية الإيقاعية، بالقدر الذي يستوعب انفجار الدلالة، ويحقق تماسكاً نصياً يستحيل فصله.
إن الوزن في شكله الأساسي المجرد هو الوعاء أو المحيط الإيقاعي الذي يخلق المناخ الملائم لكل الفعاليات الإيقاعية في النص، وهو في ذلك كالأرض الصالحة للزراعة التي لا تكتسب شكلها إلا من خلال النوع المزروع فيها، وهو يخلق منها صورة على نحو خاص تتغير "مادة وإيقاعاً" بتغير النوع. ( 1) فى مهب الشعر .د . نزار بريك . منشورات اتحاد الكتّاب العرب دمشق 2003
فالوزن الشعري هنا تعبيري، بمعنى أن بؤرة الدلالة وظلالها هي التي تعطي للوزن شكله الإيقاعي الخاص.
ولنذهب مع الشاعر فى هذا المقطع من قصيدة ولاّدة بنت المستكفى
(1)
لا تنصرفي حطي رحلك فوق خيولي .... فوق ميولي فوق وعولي وعلى كفيْك .. ضعي في الدفء شذا كفِّى ! فلنا في الشمسلنا في الورْس عُيون تُقىً ....ولنا في الغرس سُلافةُ نعْس !ولنا في العرس..لنا في الأنس..إذا أعطيتِ..صباحةَ أحلام الفردوس ...حطي رحلك صوْب عيوني...فتميمتنا ...في المنعطف !!
وبقدر ما يكون الانسجام الواجب تحققه بين الدلالة والوزن الشعري كبيراً، فإنه يتمخض ضرورة عن التحام جدلي متطور بين فضاء الوزن والفضاء الدلالي في النص الشعري يزيد من أهمية الوزن، وتزداد هذه الأهمية أكثر كلما أصبح الوزن عنصراً دلالياً في النص، على مستوى تعميق البنية الدلالية في ذاتها وتجسيدها، إذ يبدأ من هنا باكتساب جماليته الخاصة التي لا يمكن لها أن تتحقق من دون الوصل بالوزن إلى هذه المرحلة من الالتحام والتفاعل مع بؤرة المعنى وما يتمخض عنها من آفاق دلالية متشعبة، قادرة على التعبير عن التجربة الشعرية بكل عمقها وثرائها وتعقيدها.
وتصبح حركة الوزن طبقاً لهذا المفهوم متماهية مع حركة المعنى ومحددة لها في بعض الأحيان، أي تتدخل في صلب طبيعة التشكيل النسيجي لنظم البناء في النص. " 1 "
ولعل قصيدة ولادة بنت المستكفى للشاعر تقدم شاعرا متمكنا من فنه تماما ، يستحضر التراث فيصبح فاعلا ، ونصبح معه فى تلك الحالة التى أشرت إليها فى صدر الحديث عن الشاعر ننطلق معه ثم نعود لمعرفة ذلك العمق الدلالى واستكشاف ذلك الغموض الجلى فى واقع الأمر ، إلا أن الإيقاع الراقص للكلمات وللمعنى وللدلالة أيضا جعلنا ننبهر بما نقرأ أو نسمع ،فيقول :
(2) " ولادةَ بنتَ المستكفى "لا تنسَىْ في ..الرحْل " العَرْفا "وزهورا تنتظر .. القطفَ وبدُورا فوق ليالينا ...تستبق الراحة والرجْف !وأغاني القصر المسحور .. وزمانَ الغُربة ، والمنفَى !أشياءَك لا تنسى منها .. عصفوراغردَنا صيفا ! ودعاءَ الشيخ المنصور ..وقصيد هوًى .. مائةً , ألفا ..ومُغَنٍّ كان يطرِّزها ..ويمُطُّ الآهةَ.. والحرف !ويرقِّص غانية المَقْهَى...فتُثنِّى الصلصلةُ .. العِطف !ويغار السحْر الإغريقى!ويغار العطر على "دلْفَى"!(3) "ولادة بنت المستكفى"يا بنتَ سماحتنا دورى فرغيفك يعشق تنُّورى !!وخيولى تسبقنا سبقَا ... لرُوَاق السلطان الغُورى !! وأبوك يجُزُّ ..حقائبنا جزَّا ...ويمزق حبى الأسطورى ! فتعالَىْ نأخذ قسمتَنا .. فى بيتى .. غيطى ..شُحْرورى فهنا قصرٌ وهنا أمرٌوهنا خمرٌ وهناك حنِينى ...وحُبورى ! وأبى رجلٌ مستورٌ ..يرفُلُ فى البيت المستور ورضا أمى .. وخلاخلُها ..ودعاء الشيخة .. دستورى !!أرجوكِ ..أخوكِ يباركنا ..ويعانق أطياف النور !وهنا "فرديناندو" يعدُو ..ويصبُّ الليل الديْجورى فدُوَار اللعنة يسكنه ...وسُعار الزهو الأشّورى !(4)"ولادة بنت المستكفى" رُدى يا بنتَ سماحتنا ..فأنا بركانك وسْنانا وأمامك يومٌ للسلْوى ...ورديفٌ يحتضن هوانا !قالت:- فليكن الآنَ !!ونعود لأيكتِنا توّاً ..فأبى يمتارُك ولْهانا وهناك الشيخُ المأذونُ ...وقليلٌ من شمع صبانا ورغيفٌ ينتظر الملح , وزفيفٌ ...فى قلبى كان !...... فمضى ...حمدا لله , وصبرا , شكرا ..عرفانا وعلى ربَوات الأندلس ...ورفيفِ الحمراء جَوَانا !فخيولى مسرجةُ الأمس ..وغُيُولى فى عين الشمس !!وغداً "مرجانة" فى العرس ..تَسْبِى فى شدوٍ "مرجانا" !ويعود الشعر لقافلتى ..ويعود الماء لمجرانا !ويقول الناس لقابلتى : .." ولادةُ بنتُ المستكفى" ...صارت فى النجوى شعراً ..وعلى دقات الموسيقى ..صارت للدنيا .........شانا !!! " 2 " من قصيدة ولادة بنت المستكفى
وكلنا يتذكر قصة ولادة مع ابن زيدون .. أليست القصيدة هذه قدمت لكل ما سبق الحديث عنه آنفا وعبرت عن شاعر صاحب رؤية وتجربة كبيرة يجب الإشادة بها لا الإشارة فقط بعيدا عن دروب التهميش والتجاهل والنسيان .
ولنا أن نستكشف قدرات الشاعر الرومانسية ، عذوبة ورقة فيناجى المحبوبة أيا كانت تلك المحبوبة قائلا :
لأن بشالك بعض الشحوب ... وبعض الندوب .. وبعض الكلال فقد همت فى سقسقات الدلال! وطوعت عينى على فلجة فى السراج... على فلة فى السياج عليـك لأن الذى فى يديك سقام الجمال
ويستمر الشاعر فى مناجاته الهادئة للمحبوبة ، ويطلب منها البوح ، يلح فى طلبه لعدة اعتبارات يسوقها إليها كي تبوح .. ففى قصيدة " بوحى "يشير الشاعر إلى إشارات دالة تعبر عن حالة المحبوبة وموقفها فيبدأ القصيدة قائلا :
أشيحى بوجهك أوْ لا تُشيحى
وهذا يحيلنا لأشياء وأفكار قد تتبادر إلى الذهن على رجع هذا المفتتح ، حيث يبثها أسبابه التى تدفعه لذلك الطلب فيقول :
فقد باح بالعطر همس المُسُوحوصرْصرَت الريحُ نجوى الروابىوعبَّقت الروح شجوى سفوحىأريجُكِ ...لكن أريجى مباحٌوعطرى لعطركَ...فلتستبيحيغداً تقرئين الذي فى كتابىوتسترجعين الذى فى ضريحى !ونقْرِى على غُلَّة فوق بابىوشعرى على لُجَّة فى جروحىتبُوحُ الليالى الضوارى وأنتِعلى نجوةٍ فى الصَّوارى...فبُوحى
حين نتحدث عن الشعر، هذا الخواء ذي الرنين حسب عبارة هيدغر، فإننا إنما نتحدث بالضرورة عن (اللغة الشعرية) سواء أكانت قديمة أم جديدة، أي عن تلك العلاقة التي ألفنا قراءتها أو سماعها في اللغة النثرية الاعتيادية. ولئن كانت لغة النثر نفسها لا تخلو، أحياناً، من بعض الصور البلاغية والمجازية الموجودة هنا وهناك، فإنها لا تصل في كثافتها إلى حد خرق قانون اللغة. فالشعر، كما يقول الناقد الفرنسي (جان كوهن)، ليس نثراً يضاف إليه شيء آخر، بل هو النقيض للنثر، وبالنظر إلى ذلك يبدو سالباً تماماً، غير أن المعروف أن الشعر لا يحطم اللغة العادية إلا ليعيد بناءها، ومن هنا جانبه الإيجابي. ولذلك فإن اللغة لا تكسب صفة الشعرية أو الشاعرية من دون تحقيق قدر مناسب مما صار يسمى (الانزياح) عن قانون اللغة فكل صورة شعرية تعمل على خرق قانون أو قاعدة من قواعد اللغة أو مبدأ من مبادئها الدلالية.
ومعروف أن من أهم مظاهر الانزياح التي أشار إليها (جان كوهن) في كتابه (بنية اللغة الشعرية) يتمثل في أمور مثل التجنيس والقافية اللذين يعملان على عرقلة مظهر الاختلاف الصوتي الذي يضمن أداء الرسالة اللغوية، وخرق الترابط الدلالي والنحوي عن طريق اختلاف الوقفة الدلالية مع الوقفة النظمية، وإسناد صفات غير تلك اعتادت أن تصف الأشياء بها.. الخ " 3 " د: .ضياء خضير شعر الواقع وشعر الكلمات . منشورات اتحاد كتّاب العرب
إيقاع البيئة : -
ولما كان الشعر العربي، شعر مكاني في ارتباطه بالبيئة التي أنتجته، والإنسان الذي أبدعه، ولعل الإنسان لا يمكن أن ينتج شيئا إلا فى مكان وعن مكان ،كان لزاما على الدرس الأدبي أن يلتفت إلى المكان فيه، نظرة لا تحكمها التابعية، فتحصر هم المكان في بعض المظاهر الثانوية، أو تتخطاه لمجرد ذكره بعبارات اهترأت استعمالاتها، و خوت دلالتها،و صدأت جدتها. بل التنقيب في عمق العلاقات التي ينشئها المكان بينه وبين مختلف المعاني، والعادات القولية، والفعلية، والأخلاق، والسلوك. مادامت الغنائية في الشعر العربي إنما تتأسس على اهتمام فردي في المقام الأول، ثم تنفتح لعديد من العلاقات الأخرى.
واستعمل "القرآن الكريم"هذا النعت المكاني:"أصحاب اليمين"و"أصحاب الشمال"للدلالة على أهل الجنة، وأهل النار.كما استعمل غيره من النعوت المكانية لتجسيد صور الإيمان والكفر. ( 4 ) فلسفة المكان في الشعر العربي .د. حبيب مونسى . منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 2001
وهذا يدفعنا للتأكيد على البيئة المكانية والنفسية والاجتماعية بمفاهيمها المختلفة عند الشاعر محمد سليم الدسوقى من خلال مجموعة من الصور الشعرية والدلالات التى وردت فى نصوصه ، حيث لا تخلو قصيدة من قصائده إلا وتبزع مفردات وصور ودلالات تعبر عن البيئة بمستوياتها المكانية والاجتماعية والنفسية فى آن .
ولنقترب قليلا من تأثر الشعراء المحدثين بكل ما أحاط بهم من ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية ، فعلى المستوى الاجتماعي هناك من شغل نفسه أو انشغل بقضايا العدل الاجتماعي ، والتكافل الاجتماعي ، وهناك من اعتنق منهجا سياسيا للدفاع عن حرية واستقلال الأمة وآخرون شغلوا بالقضايا الثقافية ، خاصة أن هذا العصر شهد أكبر محاولات تجديد فى شكل القصيدة العربية ( قصيدة التفعيلة ) وما زالت المعارك الثقافية مستمرة ، لم يكن محمد سليم الدسوقى إلا مستفيدا من هذا الحراك الثقافي وتلك المعارك ، فنتج إبداعه مواكبا لحركات التجديد بما يخدم ما قلناه سلفا عن إيقاع الكلمة ولعل القارئ لشعر الدسوقى يدرك قدراته الفنية العالية فى هذا الخصوص ، ولنذهب معا لبعض قصائد ديوانه (الحب فى زمن الرمادة ) " 5 " ديوان صادر عن سلسلة أصوات معاصرة ..
ذلك الزمن الذى يعكس بلا ريب زمنا ما ودالا على حاضر ما أيضا ، مستخدما مفردات غاية فى الدلالة مكنته من رسم اللوحات الفنية التى أرادها لهذا الزمن المَتاجر فيه بكل المعاني الجميلة ، ويصبح زمنا للدّلاّلات والنخاسين وتجار الكلمات ، ولندرك أيضا مدلول تجار الكلمات هنا ..
إن الشاعر يستخدم مفردات من بيئته التى يعيشها وتعيشه ، تلك البيئة المكانية الريفية التي تعتمد على حرفة الزراعة فيقول :
تحترق حقول القمح
الحلبة
أعواد النعناع
تموت نبوءات الأزهار
فراشات النّوّار
تموء القطة والزنبار
وترمد أرضي
تقذف في الطرقات
ثعابين الرمضاء
نلاحظ تلك الصور التى تنبع جملة وتفصيلا من تلك البيئة المكانية عاكسة لتلك البيئات الأخرى المنصهرة فيها الاجتماعية والنفسية والاقتصادية ، ليدل على ما وصل إليه الحال فى تلك الأرض الخصبة التى تحولت بفعل الزمن من إنتاج للأزهار والثمار الطيبة ، إلى ملجأ للثعابين التى تمرح فى هذا القيظ من الحياة ، وهنا أيضا تدفعنا الصور التى يسوقها الشاعر للتعرض لتأثير الزمان على المكان .. وتعود بنا الذاكرة للدراسات الطللية فى الشعر العربي .
ثم يسوق لنا الشاعر مفردة أخرى وصورة أخرى تحمل روح المقاومة والصمود فيقول :
وتبحث أطيار الظل المفقود
عن العنقود
تتدلى
تعبث
تحتج
تغامر
تغمز منطرف العينين
تفتش فى جوف النسيان
تسائله
تستأذن من حبّات القمح
التائهة الخربة
تفتح أبواب جذوع الأشجار
تقاسم قطعان النمل
جماعات الديدان
بقايا حبّات الزمن الفائت .
نلاحظ أن كل أفعال الفقرة السابقة تدل دلالة واضحة على الحركة والفعل والمحاولة الإيجابية للتخلص من قيود هذا الزمن المدودب على حد تعبير الشاعر.. فهو شاعر لا يقف موقف الراصد المعبر وصفيا عن اللحظة ، بل يعلم جيدا حقيقة الشعر ووظيفته ، وهى قدرته على الفعل والمقاومة .
ولنرى معا هذا الترتيب للأفعال ( تبحث – تتدلى – تعبث – تمنح – تغامر- تقاسم ) . ونلاحظ الفعل الأخير ( تقاسم ) ليدل على أن هناك قدرا من الحق قد تم أخذه نتيجة كل ما سبق من أفعال .
وفى قصيدة العرّافة يقول من تلك المفردات أيضا :
فتزرع شطّها الوردىّ
حور الليل
عريانة
وفى قصيدة سيمفونية يقول أيضا :
ونحلم بالخضرة فى طوفان الدم
وبالظل الوارف في أتون الشمس
ولنذهب لقصيدته الغداء الأخير نجد هذا الكم الهائل من تلك المفردات فيقول :
فلمن تأتين بسلة خبز
أرز
موز
قلة ماء
مأدبة غداء
يا جارية الحقل
وغانية الفقراء
وينطلق فى هذه القصيدة شارحا ما فعله هؤلاء فى حياته وحياتها سواء كانت تلك المخاطبة أمرأة أو وطن فيقول :
جرحوا الحقل وساحوا
لا يلوون على شئ آخر
غير الجرى على أجرين
على شطين نديين
على ثديين حلوبين
ثم يقول
مات الزمن الفائت ودفنّاه
كنّا نسمر بين الحقل وبين الدور
تثغو الساقية
ويثغو الراعي
والأغنام الشائهة
عواء البقرة والطنبور
كنّا ... كان
وهنا نجد الشاعر قد استخدم مفردات ووظفها بطريقة عكسية تعكس طبيعة ما وصل إليه هذا الزمن وتلك البيئة ، وهو ما يمكن أن نطلق عليه بالمفارقة التصويرية ، ناسفا كل العلاقات المنطقية للأشياء وللمفردات ، فها هي الساقية تثغو ، والراعي يثغو ، والبقرة تعوي وكذلك الطنبور ، وفى مثل تلك المفارقات التصويرية نجد أيضا سوار الأذنين ، وقرط المعصم ، والشاعر من وجهة نظرى نجح نجاحا كبيرا فى تلك الصور التى ساقها لنا ، فلم تكن بطريقة عفوية ، بل وظفها بطريقة تعبر عن وعى وتمكن كبيرين ، وليس هذا الحديث عن المفارقة التصويرية فى شعر الدسوقى ، حيث تحتاج لوقت ودراسة أكثر عمقا من مجرد الإشارة فقط .
نعود إلى مفردات الدسوقى المعبرة عن بيئته من خلال صفحات الديوان فيقول فى قصيدة ( حصار الحلم ) :
بعيون الأيام الساهرة وقفنا
ننتظر الشمس
نغازلها نمطرها الدفء
الصدق
الحب
حصاد الأمس المأزوم
ثمار العرق المكدود
الناعس فوق جبين الفأس
صليل المنجل
أفراح السنبل
أحمال السابلة
وحلم الأرض الصابرة
الأمل هو السلاح الذى يمكن الشاعر من المقاومة وعدم الاستسلام ، ينتظر الشمس ، الصباح الذى يعقب الليل والظلام ، يقدم فى سبيل تحقيق حلمه مجموعة أشياء مترجمة فى أفعال ( نغازلها – نمطرها الدفء ) معتمدا فى ذلك على الصدق والحب ورصيد كبير من العمل الجاد والعرق والكد.
ويستمر فيقول :
أحجبة العرّافة
وثغاء العنزة
أحلبها
تقسم ما فى الضرع الفائر قطرة حلب
ما فى الحلق الالصابر كسرة خبز
غصة عشب
هذه هي البيئة التى عاشها الشاعر ، بيئة فقيرة معدمة ، لكنها أبدا ما فقدت الإحساس بالقدرة على الحياة ، تتمسك بالحلم ، وتعشق أيضا التمسك به .
يقول أيضا :
ترقص عافيتي في عرس الشمس
ترّجع أغنية العمر المخضوضر
يملأ أحضان الأجران
تراتيل الساحة
موّال العنزة
إصرار الخنساء
كراريس الأولاد
علامات الاستفهام
وهنا نلاحظ تداخلا لكل البئات التى عاشها الشعر بمفاهيم البيئة النوعية ويستمر فى هذا التناغم بين البيئة الريفية والتراثية والدينية والاجتماعية والنفسية أيضا مستدعيا عمر بن الخطاب ناشدا عودة العدل ، وكما نرى فى الجزء السابق قد استدعى الخنساء ، داعيا استلهام قدرتها على الصبر والتجلد .
الشاعر محمد سليم الدسوقى واحد من الشعراء الذين أجادوا العزف على أوتار الكلمة فكانت إيقاعاته دالة وموحية ومتناسقة وذات شجون ، مستخدما فى ذلك المفردات والصور التى ولدتها تلك البيئة التى أنتجته فأنتجت جل أعماله الشعرية التى تعتبر إضافة كبيرة وهامة لمكتبتنا الشعرية العربية
سوف أبدأ الحديث عن الشاعر محمد سليم الدسوقى من منطلق القدرة لديه على ضبط إيقاع الكلمات بطريقة لافتة للنظر ، وهو ما يجعل القارئ يذهب معه ، وقد لا ينشغل كثيرا بالمحتوى ، الذى هو فى واقع الأمر يحمل دلالات كثيرة ويعبر عن قدرات خاصة للشاعر ، وهو ما قلته للشاعر بالفعل عند إحساسه بالإهمال النقدى الواضح لكتاباته التى قدم فيها جهدا خارقا ورؤية غاية فى الأهمية وتجربة أستطيع أن أقول أنها متفردة ، تختلف كثيرا عن المألوف فى صالوناتنا الشعرية ، ولعل شعوره بالتجاهل النقدى لم يكن حجر عثرة فى طريق مواصلته للكتابة ، فأخذ يعد ديوانا بعد الآخر ، فى كل ديوان تجد متعة مضافة فى تجربة الدسوقى ، ولعل ذلك يدفعنا لتبنى رؤية ( مالارميه ) فى تعريفه للشعر حيث يرى ..
إن الشعر هو التعبير باللغة البشرية وقد أرجعت إلى إيقاعها الأساس، إيقاع المعنى الغامض لمظاهر الوجود، بمعنى أن شرط الشعر ينبع من اكتساب لغته إيقاعاً خاصاً يتشكل من قوة الغموض في الطبقات العميقة للمعنى، تلك التي تحاول تفسير مظاهر الوجود المعقدة تفسيراً شعرياً، إلا أن دخول موسيقى الشعر بوصفها نظاماً قائماً على أسس وقواعد وقوانين منطقية ورياضية زاد من انتظام فعالية البنية الإيقاعية في النص الشعري، وفسّر في الوقت نفسه إشكالية الغموض والقوة فيه، ونقلها من فضائها السحري الغيبي إلى حيث تشتغل أدائياً في بنية القول الشعري، متجاوزة في ذلك الوظيفة التقليدية الصرف للإيقاع.
هذا النظام الجديد بقوانينه ونظمه وقواعده المحددة الواضحة التي تنطوي على إمكانات قابلة للانكشاف بمرور الزمن وتعقيد التجربة الشعرية وتعميقها، يتقدم بوصفه بنية رمزية تنتزع مفاتيحها من شبكة الدلالات التي تمتزج بها، وتنقلها من شكل الحياد في حدود واقعها الرياضي المقنن إلى صورة الانحياز المتضمن استنباط كل عناصر الحياة والإبداع والتجول في هذا الواقع المقنن، وجعله جزءاً متفاعلاً في التجربة.
إن المهمة التقليدية التي ينهض بها الشاعر في محاولة إيجاد محاورة بين إيقاع الدلالة ودلالة الإيقاع، تبدو الآن غير كافية تماماً إذا ما أدركنا سر الارتباط الحيوي بين الشعر والموسيقى والعلاقة العضوية بينهما، بوصف أن الإيقاع المتولد عن هذا التداخل يعد مناخاً حيوياً يوفر لمنظومة الدلالات المتشكلة من جوهر المعنى الشعري قدرة أكبر على التمظهر واتساع الحدود.
إن المعنى لا يتحول من نثري محدد إلى شعري مطلق إلا من خلال اشتغال بنية إيقاعية، تسهم في إحداث هذا التحول الخطير في شكل اللغة وطاقاتها الدلالية، وصولاً إلى التعبير عن الظلال الوجدانية للدلالات.
من هنا يمكن التأكيد على أن أي خلل في الموازنة الحرة بين إيقاع الدلالة ودلالة الإيقاع يصاحبه شرخ في شعرية القصيدة، يؤدي ضرورة إلى خلخلة نظمها وقوانينها.
يمثل الصوت أصغر وحدة إيقاعية في المفردة الداخلية في نسيج القصيدة الشعرية، ويكتسب في دخوله الشعري قيمة إيقاعية مضافة، من خلال الفعاليات التي تنهض بها مجموعة الأصوات المتجانسة والمتناثرة، وهي تؤلف موجهات تقارب قيما ًدلالية معينة، لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال إقصاء إيقاع المفردة الشعرية عن محتواها الدلالي.
وإذا كانت هذه العلاقة يكتنفها الكثير من الغموض والسرية في صورتها المجردة غير الشعرية، فإنها في الشعر تتجلى بكامل قوتها وعطائها، إذ أن للشعر قوته في كشف سرية العلاقة وإبانة غموض آلية التوصل بين معنى الصوت وصوت المعنى فيها.
وتظهر قوة الشعر الكاملة هذه في الطاقة التي ينطوي عليها الصوت مشرباً بالدلالة، وبقدر ما يكون هناك تجاوب صوتي فإنه يسهم في إحداث موازنة سيميائية دلالية، كما أن الجرس الموسيقي وهو يتشكل باندفاعات صوتية ذات صورة أكثر تعقيداً من الصوت المجرد، فإنه يشتغل على تصوير فضاء المعنى، ويعمل الإيقاع بوصفه المرحلة الصوتية الأكثر نضجاً وصيرورة على دعم هذا الفضاء من خلال إنتاج الفعل الصوتي في النص.
إن طبيعة التكون والنمو المحوري للدلالات في النص تفرض على الأصوات المؤلفة لها طبيعة السعة والعمق، بما يحقق تناسباً حياً تتمخض عنه البنية الإيقاعية الخاصة بالنص.
ويبدأ هذا التكون من نقطة "بؤرية" تلتقي فيها بؤرة المعنى مع بؤرة الصوت، ويتم الاتحاد بينهما في منطقة الشعر الغامضة، وباكتساب هذا الاتحاد قوته الشعرية تندفع بؤرة المعنى نحو التخلق الكامل بالتجربة، ومن ثم تقديم مستويات دلالية جديدة مشبعة بالتعدد والاحتمال يصاحبها تطور وتعقيد وعمق في البنية الإيقاعية، بالقدر الذي يستوعب انفجار الدلالة، ويحقق تماسكاً نصياً يستحيل فصله.
إن الوزن في شكله الأساسي المجرد هو الوعاء أو المحيط الإيقاعي الذي يخلق المناخ الملائم لكل الفعاليات الإيقاعية في النص، وهو في ذلك كالأرض الصالحة للزراعة التي لا تكتسب شكلها إلا من خلال النوع المزروع فيها، وهو يخلق منها صورة على نحو خاص تتغير "مادة وإيقاعاً" بتغير النوع. ( 1) فى مهب الشعر .د . نزار بريك . منشورات اتحاد الكتّاب العرب دمشق 2003
فالوزن الشعري هنا تعبيري، بمعنى أن بؤرة الدلالة وظلالها هي التي تعطي للوزن شكله الإيقاعي الخاص.
ولنذهب مع الشاعر فى هذا المقطع من قصيدة ولاّدة بنت المستكفى
(1)
لا تنصرفي حطي رحلك فوق خيولي .... فوق ميولي فوق وعولي وعلى كفيْك .. ضعي في الدفء شذا كفِّى ! فلنا في الشمسلنا في الورْس عُيون تُقىً ....ولنا في الغرس سُلافةُ نعْس !ولنا في العرس..لنا في الأنس..إذا أعطيتِ..صباحةَ أحلام الفردوس ...حطي رحلك صوْب عيوني...فتميمتنا ...في المنعطف !!
وبقدر ما يكون الانسجام الواجب تحققه بين الدلالة والوزن الشعري كبيراً، فإنه يتمخض ضرورة عن التحام جدلي متطور بين فضاء الوزن والفضاء الدلالي في النص الشعري يزيد من أهمية الوزن، وتزداد هذه الأهمية أكثر كلما أصبح الوزن عنصراً دلالياً في النص، على مستوى تعميق البنية الدلالية في ذاتها وتجسيدها، إذ يبدأ من هنا باكتساب جماليته الخاصة التي لا يمكن لها أن تتحقق من دون الوصل بالوزن إلى هذه المرحلة من الالتحام والتفاعل مع بؤرة المعنى وما يتمخض عنها من آفاق دلالية متشعبة، قادرة على التعبير عن التجربة الشعرية بكل عمقها وثرائها وتعقيدها.
وتصبح حركة الوزن طبقاً لهذا المفهوم متماهية مع حركة المعنى ومحددة لها في بعض الأحيان، أي تتدخل في صلب طبيعة التشكيل النسيجي لنظم البناء في النص. " 1 "
ولعل قصيدة ولادة بنت المستكفى للشاعر تقدم شاعرا متمكنا من فنه تماما ، يستحضر التراث فيصبح فاعلا ، ونصبح معه فى تلك الحالة التى أشرت إليها فى صدر الحديث عن الشاعر ننطلق معه ثم نعود لمعرفة ذلك العمق الدلالى واستكشاف ذلك الغموض الجلى فى واقع الأمر ، إلا أن الإيقاع الراقص للكلمات وللمعنى وللدلالة أيضا جعلنا ننبهر بما نقرأ أو نسمع ،فيقول :
(2) " ولادةَ بنتَ المستكفى "لا تنسَىْ في ..الرحْل " العَرْفا "وزهورا تنتظر .. القطفَ وبدُورا فوق ليالينا ...تستبق الراحة والرجْف !وأغاني القصر المسحور .. وزمانَ الغُربة ، والمنفَى !أشياءَك لا تنسى منها .. عصفوراغردَنا صيفا ! ودعاءَ الشيخ المنصور ..وقصيد هوًى .. مائةً , ألفا ..ومُغَنٍّ كان يطرِّزها ..ويمُطُّ الآهةَ.. والحرف !ويرقِّص غانية المَقْهَى...فتُثنِّى الصلصلةُ .. العِطف !ويغار السحْر الإغريقى!ويغار العطر على "دلْفَى"!(3) "ولادة بنت المستكفى"يا بنتَ سماحتنا دورى فرغيفك يعشق تنُّورى !!وخيولى تسبقنا سبقَا ... لرُوَاق السلطان الغُورى !! وأبوك يجُزُّ ..حقائبنا جزَّا ...ويمزق حبى الأسطورى ! فتعالَىْ نأخذ قسمتَنا .. فى بيتى .. غيطى ..شُحْرورى فهنا قصرٌ وهنا أمرٌوهنا خمرٌ وهناك حنِينى ...وحُبورى ! وأبى رجلٌ مستورٌ ..يرفُلُ فى البيت المستور ورضا أمى .. وخلاخلُها ..ودعاء الشيخة .. دستورى !!أرجوكِ ..أخوكِ يباركنا ..ويعانق أطياف النور !وهنا "فرديناندو" يعدُو ..ويصبُّ الليل الديْجورى فدُوَار اللعنة يسكنه ...وسُعار الزهو الأشّورى !(4)"ولادة بنت المستكفى" رُدى يا بنتَ سماحتنا ..فأنا بركانك وسْنانا وأمامك يومٌ للسلْوى ...ورديفٌ يحتضن هوانا !قالت:- فليكن الآنَ !!ونعود لأيكتِنا توّاً ..فأبى يمتارُك ولْهانا وهناك الشيخُ المأذونُ ...وقليلٌ من شمع صبانا ورغيفٌ ينتظر الملح , وزفيفٌ ...فى قلبى كان !...... فمضى ...حمدا لله , وصبرا , شكرا ..عرفانا وعلى ربَوات الأندلس ...ورفيفِ الحمراء جَوَانا !فخيولى مسرجةُ الأمس ..وغُيُولى فى عين الشمس !!وغداً "مرجانة" فى العرس ..تَسْبِى فى شدوٍ "مرجانا" !ويعود الشعر لقافلتى ..ويعود الماء لمجرانا !ويقول الناس لقابلتى : .." ولادةُ بنتُ المستكفى" ...صارت فى النجوى شعراً ..وعلى دقات الموسيقى ..صارت للدنيا .........شانا !!! " 2 " من قصيدة ولادة بنت المستكفى
وكلنا يتذكر قصة ولادة مع ابن زيدون .. أليست القصيدة هذه قدمت لكل ما سبق الحديث عنه آنفا وعبرت عن شاعر صاحب رؤية وتجربة كبيرة يجب الإشادة بها لا الإشارة فقط بعيدا عن دروب التهميش والتجاهل والنسيان .
ولنا أن نستكشف قدرات الشاعر الرومانسية ، عذوبة ورقة فيناجى المحبوبة أيا كانت تلك المحبوبة قائلا :
لأن بشالك بعض الشحوب ... وبعض الندوب .. وبعض الكلال فقد همت فى سقسقات الدلال! وطوعت عينى على فلجة فى السراج... على فلة فى السياج عليـك لأن الذى فى يديك سقام الجمال
ويستمر الشاعر فى مناجاته الهادئة للمحبوبة ، ويطلب منها البوح ، يلح فى طلبه لعدة اعتبارات يسوقها إليها كي تبوح .. ففى قصيدة " بوحى "يشير الشاعر إلى إشارات دالة تعبر عن حالة المحبوبة وموقفها فيبدأ القصيدة قائلا :
أشيحى بوجهك أوْ لا تُشيحى
وهذا يحيلنا لأشياء وأفكار قد تتبادر إلى الذهن على رجع هذا المفتتح ، حيث يبثها أسبابه التى تدفعه لذلك الطلب فيقول :
فقد باح بالعطر همس المُسُوحوصرْصرَت الريحُ نجوى الروابىوعبَّقت الروح شجوى سفوحىأريجُكِ ...لكن أريجى مباحٌوعطرى لعطركَ...فلتستبيحيغداً تقرئين الذي فى كتابىوتسترجعين الذى فى ضريحى !ونقْرِى على غُلَّة فوق بابىوشعرى على لُجَّة فى جروحىتبُوحُ الليالى الضوارى وأنتِعلى نجوةٍ فى الصَّوارى...فبُوحى
حين نتحدث عن الشعر، هذا الخواء ذي الرنين حسب عبارة هيدغر، فإننا إنما نتحدث بالضرورة عن (اللغة الشعرية) سواء أكانت قديمة أم جديدة، أي عن تلك العلاقة التي ألفنا قراءتها أو سماعها في اللغة النثرية الاعتيادية. ولئن كانت لغة النثر نفسها لا تخلو، أحياناً، من بعض الصور البلاغية والمجازية الموجودة هنا وهناك، فإنها لا تصل في كثافتها إلى حد خرق قانون اللغة. فالشعر، كما يقول الناقد الفرنسي (جان كوهن)، ليس نثراً يضاف إليه شيء آخر، بل هو النقيض للنثر، وبالنظر إلى ذلك يبدو سالباً تماماً، غير أن المعروف أن الشعر لا يحطم اللغة العادية إلا ليعيد بناءها، ومن هنا جانبه الإيجابي. ولذلك فإن اللغة لا تكسب صفة الشعرية أو الشاعرية من دون تحقيق قدر مناسب مما صار يسمى (الانزياح) عن قانون اللغة فكل صورة شعرية تعمل على خرق قانون أو قاعدة من قواعد اللغة أو مبدأ من مبادئها الدلالية.
ومعروف أن من أهم مظاهر الانزياح التي أشار إليها (جان كوهن) في كتابه (بنية اللغة الشعرية) يتمثل في أمور مثل التجنيس والقافية اللذين يعملان على عرقلة مظهر الاختلاف الصوتي الذي يضمن أداء الرسالة اللغوية، وخرق الترابط الدلالي والنحوي عن طريق اختلاف الوقفة الدلالية مع الوقفة النظمية، وإسناد صفات غير تلك اعتادت أن تصف الأشياء بها.. الخ " 3 " د: .ضياء خضير شعر الواقع وشعر الكلمات . منشورات اتحاد كتّاب العرب
إيقاع البيئة : -
ولما كان الشعر العربي، شعر مكاني في ارتباطه بالبيئة التي أنتجته، والإنسان الذي أبدعه، ولعل الإنسان لا يمكن أن ينتج شيئا إلا فى مكان وعن مكان ،كان لزاما على الدرس الأدبي أن يلتفت إلى المكان فيه، نظرة لا تحكمها التابعية، فتحصر هم المكان في بعض المظاهر الثانوية، أو تتخطاه لمجرد ذكره بعبارات اهترأت استعمالاتها، و خوت دلالتها،و صدأت جدتها. بل التنقيب في عمق العلاقات التي ينشئها المكان بينه وبين مختلف المعاني، والعادات القولية، والفعلية، والأخلاق، والسلوك. مادامت الغنائية في الشعر العربي إنما تتأسس على اهتمام فردي في المقام الأول، ثم تنفتح لعديد من العلاقات الأخرى.
واستعمل "القرآن الكريم"هذا النعت المكاني:"أصحاب اليمين"و"أصحاب الشمال"للدلالة على أهل الجنة، وأهل النار.كما استعمل غيره من النعوت المكانية لتجسيد صور الإيمان والكفر. ( 4 ) فلسفة المكان في الشعر العربي .د. حبيب مونسى . منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 2001
وهذا يدفعنا للتأكيد على البيئة المكانية والنفسية والاجتماعية بمفاهيمها المختلفة عند الشاعر محمد سليم الدسوقى من خلال مجموعة من الصور الشعرية والدلالات التى وردت فى نصوصه ، حيث لا تخلو قصيدة من قصائده إلا وتبزع مفردات وصور ودلالات تعبر عن البيئة بمستوياتها المكانية والاجتماعية والنفسية فى آن .
ولنقترب قليلا من تأثر الشعراء المحدثين بكل ما أحاط بهم من ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية ، فعلى المستوى الاجتماعي هناك من شغل نفسه أو انشغل بقضايا العدل الاجتماعي ، والتكافل الاجتماعي ، وهناك من اعتنق منهجا سياسيا للدفاع عن حرية واستقلال الأمة وآخرون شغلوا بالقضايا الثقافية ، خاصة أن هذا العصر شهد أكبر محاولات تجديد فى شكل القصيدة العربية ( قصيدة التفعيلة ) وما زالت المعارك الثقافية مستمرة ، لم يكن محمد سليم الدسوقى إلا مستفيدا من هذا الحراك الثقافي وتلك المعارك ، فنتج إبداعه مواكبا لحركات التجديد بما يخدم ما قلناه سلفا عن إيقاع الكلمة ولعل القارئ لشعر الدسوقى يدرك قدراته الفنية العالية فى هذا الخصوص ، ولنذهب معا لبعض قصائد ديوانه (الحب فى زمن الرمادة ) " 5 " ديوان صادر عن سلسلة أصوات معاصرة ..
ذلك الزمن الذى يعكس بلا ريب زمنا ما ودالا على حاضر ما أيضا ، مستخدما مفردات غاية فى الدلالة مكنته من رسم اللوحات الفنية التى أرادها لهذا الزمن المَتاجر فيه بكل المعاني الجميلة ، ويصبح زمنا للدّلاّلات والنخاسين وتجار الكلمات ، ولندرك أيضا مدلول تجار الكلمات هنا ..
إن الشاعر يستخدم مفردات من بيئته التى يعيشها وتعيشه ، تلك البيئة المكانية الريفية التي تعتمد على حرفة الزراعة فيقول :
تحترق حقول القمح
الحلبة
أعواد النعناع
تموت نبوءات الأزهار
فراشات النّوّار
تموء القطة والزنبار
وترمد أرضي
تقذف في الطرقات
ثعابين الرمضاء
نلاحظ تلك الصور التى تنبع جملة وتفصيلا من تلك البيئة المكانية عاكسة لتلك البيئات الأخرى المنصهرة فيها الاجتماعية والنفسية والاقتصادية ، ليدل على ما وصل إليه الحال فى تلك الأرض الخصبة التى تحولت بفعل الزمن من إنتاج للأزهار والثمار الطيبة ، إلى ملجأ للثعابين التى تمرح فى هذا القيظ من الحياة ، وهنا أيضا تدفعنا الصور التى يسوقها الشاعر للتعرض لتأثير الزمان على المكان .. وتعود بنا الذاكرة للدراسات الطللية فى الشعر العربي .
ثم يسوق لنا الشاعر مفردة أخرى وصورة أخرى تحمل روح المقاومة والصمود فيقول :
وتبحث أطيار الظل المفقود
عن العنقود
تتدلى
تعبث
تحتج
تغامر
تغمز منطرف العينين
تفتش فى جوف النسيان
تسائله
تستأذن من حبّات القمح
التائهة الخربة
تفتح أبواب جذوع الأشجار
تقاسم قطعان النمل
جماعات الديدان
بقايا حبّات الزمن الفائت .
نلاحظ أن كل أفعال الفقرة السابقة تدل دلالة واضحة على الحركة والفعل والمحاولة الإيجابية للتخلص من قيود هذا الزمن المدودب على حد تعبير الشاعر.. فهو شاعر لا يقف موقف الراصد المعبر وصفيا عن اللحظة ، بل يعلم جيدا حقيقة الشعر ووظيفته ، وهى قدرته على الفعل والمقاومة .
ولنرى معا هذا الترتيب للأفعال ( تبحث – تتدلى – تعبث – تمنح – تغامر- تقاسم ) . ونلاحظ الفعل الأخير ( تقاسم ) ليدل على أن هناك قدرا من الحق قد تم أخذه نتيجة كل ما سبق من أفعال .
وفى قصيدة العرّافة يقول من تلك المفردات أيضا :
فتزرع شطّها الوردىّ
حور الليل
عريانة
وفى قصيدة سيمفونية يقول أيضا :
ونحلم بالخضرة فى طوفان الدم
وبالظل الوارف في أتون الشمس
ولنذهب لقصيدته الغداء الأخير نجد هذا الكم الهائل من تلك المفردات فيقول :
فلمن تأتين بسلة خبز
أرز
موز
قلة ماء
مأدبة غداء
يا جارية الحقل
وغانية الفقراء
وينطلق فى هذه القصيدة شارحا ما فعله هؤلاء فى حياته وحياتها سواء كانت تلك المخاطبة أمرأة أو وطن فيقول :
جرحوا الحقل وساحوا
لا يلوون على شئ آخر
غير الجرى على أجرين
على شطين نديين
على ثديين حلوبين
ثم يقول
مات الزمن الفائت ودفنّاه
كنّا نسمر بين الحقل وبين الدور
تثغو الساقية
ويثغو الراعي
والأغنام الشائهة
عواء البقرة والطنبور
كنّا ... كان
وهنا نجد الشاعر قد استخدم مفردات ووظفها بطريقة عكسية تعكس طبيعة ما وصل إليه هذا الزمن وتلك البيئة ، وهو ما يمكن أن نطلق عليه بالمفارقة التصويرية ، ناسفا كل العلاقات المنطقية للأشياء وللمفردات ، فها هي الساقية تثغو ، والراعي يثغو ، والبقرة تعوي وكذلك الطنبور ، وفى مثل تلك المفارقات التصويرية نجد أيضا سوار الأذنين ، وقرط المعصم ، والشاعر من وجهة نظرى نجح نجاحا كبيرا فى تلك الصور التى ساقها لنا ، فلم تكن بطريقة عفوية ، بل وظفها بطريقة تعبر عن وعى وتمكن كبيرين ، وليس هذا الحديث عن المفارقة التصويرية فى شعر الدسوقى ، حيث تحتاج لوقت ودراسة أكثر عمقا من مجرد الإشارة فقط .
نعود إلى مفردات الدسوقى المعبرة عن بيئته من خلال صفحات الديوان فيقول فى قصيدة ( حصار الحلم ) :
بعيون الأيام الساهرة وقفنا
ننتظر الشمس
نغازلها نمطرها الدفء
الصدق
الحب
حصاد الأمس المأزوم
ثمار العرق المكدود
الناعس فوق جبين الفأس
صليل المنجل
أفراح السنبل
أحمال السابلة
وحلم الأرض الصابرة
الأمل هو السلاح الذى يمكن الشاعر من المقاومة وعدم الاستسلام ، ينتظر الشمس ، الصباح الذى يعقب الليل والظلام ، يقدم فى سبيل تحقيق حلمه مجموعة أشياء مترجمة فى أفعال ( نغازلها – نمطرها الدفء ) معتمدا فى ذلك على الصدق والحب ورصيد كبير من العمل الجاد والعرق والكد.
ويستمر فيقول :
أحجبة العرّافة
وثغاء العنزة
أحلبها
تقسم ما فى الضرع الفائر قطرة حلب
ما فى الحلق الالصابر كسرة خبز
غصة عشب
هذه هي البيئة التى عاشها الشاعر ، بيئة فقيرة معدمة ، لكنها أبدا ما فقدت الإحساس بالقدرة على الحياة ، تتمسك بالحلم ، وتعشق أيضا التمسك به .
يقول أيضا :
ترقص عافيتي في عرس الشمس
ترّجع أغنية العمر المخضوضر
يملأ أحضان الأجران
تراتيل الساحة
موّال العنزة
إصرار الخنساء
كراريس الأولاد
علامات الاستفهام
وهنا نلاحظ تداخلا لكل البئات التى عاشها الشعر بمفاهيم البيئة النوعية ويستمر فى هذا التناغم بين البيئة الريفية والتراثية والدينية والاجتماعية والنفسية أيضا مستدعيا عمر بن الخطاب ناشدا عودة العدل ، وكما نرى فى الجزء السابق قد استدعى الخنساء ، داعيا استلهام قدرتها على الصبر والتجلد .
الشاعر محمد سليم الدسوقى واحد من الشعراء الذين أجادوا العزف على أوتار الكلمة فكانت إيقاعاته دالة وموحية ومتناسقة وذات شجون ، مستخدما فى ذلك المفردات والصور التى ولدتها تلك البيئة التى أنتجته فأنتجت جل أعماله الشعرية التى تعتبر إضافة كبيرة وهامة لمكتبتنا الشعرية العربية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق