- (أتراني أحيا حقاً ؟!) وبراءة الرؤية
.jpg)
من السيرة الذاتية الموجزة يتبين لنا أن اهتمامات الأديب " محمود الديداموني" تعدد في مجال الكتابة بين المسرح حيث نفذت لـه مسارح الثقافة الجماهيرية نصوصاً, وبين الشاعر حيث أصدر ديواناً بعنوان( الشمس تشهد والقمر) ثم القصة القصيرة والتي يبدو أنها تكاد تكون المرتكز الرئيسي لعالمه حيث صدرت له نماذج منها في كتابين مشتركين قبل أن تصدر له المجموعة المستقلة (أتراني أحيا حقاً؟!) ويبدو أن تعدد الاهتمامات عند " محمود الديداموني" يعكس ضوءاً صادقاً لما يسعى إليه خاصة في مجال القصة القصيرة والتي أدانت من خلال هذه المجموعة أنه يحمل هماً إنسانياً يقترب من أنفاس البشر لذلك كان حريصاً أن يرصد الكثير من القواسم المشتركة فيما بين هؤلاء البشر.
في القرية التي هو واحد من أبنائها وبين المدينة التي يستكمل معها تأملاته لصورة الوطن من خلال الحياة اليومية للإنسان المصري ومعاناته التي لا تتوقف في دروبها.
صحيح أن عالم القرية هو الغالب على فضاء المجموعة ربما لأن الطبيعة هي المنطلق الذي تقوم عليه بنية القصة إلى جانب حسه الشعري الذي يعكس عبر الخيال اللغوي أوصافاً تشف عن شاعرية مضمرة أطلت ابتداء من الإهداء قبل أن يتوغل فيه تجسيد درامية الحدث أو ترسم صورة حالمة تتعاطف مع توجهات الإنسان سواء تحققت أو أحبطت هذا التعاطف ظل في منطقة البراءة التي ترى دون أن تؤول في كثير من الأحيان أو تحيل إلى دلالات مثيرة مثلما جاء ذلك واضحاً في بعض القصص فمعظمها مثل( في مدارات الزمن) و( أتراني أحيا حقاً؟!) ,( شرك السطور) على سبيل المثال والتي أدانت أن الكاتب يعيها جيداً لكن ربما الأزمان المتفرقة التي كتبت فيها القصص هي التي أدانت ذلك بعدما اتجهت قدراته إلى النضوج الفني ولا تعني البراءة التي أشير إليها أن القصص محصورة في سطحية التناول لكن غالبيتها اكتفت بتقديم صورة ظاهرية تحمل الإشارات الصحفية كسؤال المجموعة ككل.
يعتمد الكاتب في أول قصص المجموعة(إحياء) على السرد الوصفي والحوار معاً والإيحاء هنا ممثلاً في ذلك الآخر الذي أحب امرأة متزوجة تلك التي أطلت بعينيها السوداوين وقد تجمد بصره عليها قبل أن يمضي في صراع مع نفسه حيث يطارده الأرق وهو يعبر عن أشواقه تجاهها لصاحبه.فالسرد الواصف للحركة والحوار يمضيان في نسق البراءة القصصية التي لا تخرج عن ظاهرية الحدث تاركة لها أن تعكس التأثير الجمالي المطلوب حسب الحالة دون أن يصحب ذلك تأويلاً دلالياً يتوغل إلى عمق النفس أو ما يحتويه فضاء النص.
فإذا كانت القصة قد دخلت في تفسيرات مباشرة في منطقة الحوار مثل – من العيب إكراه أحد على شئ لا يريده, الحب هو سعادة من تحب – حيث لن تنعكس تأثيرات هذه المفاهيم المباشرة داخل السرد فإن السياق جنح أيضاً بالوصف إلى صور تكاد تكون معدة بفعل الكاتب بشكل واضح.. لاحظ معي (مر وقت غير كثير لا يعرف كيف حدث ذلك , ترك المكان تحرك يطوف الشوارع حتى بزغ فجر الغد) وكان يمكن أن يكتفي بقوله حتى - بزغ الفجر- , ثم أين القدر المرتب في قوله:" رأته وكأن القدر رتب لـه ذلك, جلست, جلس يحدق فيها) وهو كما نلحظ أن حركة طواف المحب في الشارع حتى الفجر هي التي رتبت بينما القدر يرتب اللحظة المتوهجة لم تكن في الحسبان.
(في قصص قصيرة جداً) وهي خمس أقاصيص الأولى (ارتطام) وقد كتبت بنفس أسلوب قصته (إيحاء) تقريباً غير أنها ارتكزت على لحظة خيالية لم تقدر المسافة مع الواقع حيث تخيل البطل تلك الوقورة التي بهره جمالها أنها أومأت لـه كأنه كان ينتظر تلك الإيماءة لكي يسرع نحوها ناسياً نفسه فيرتطم بالحائط الزجاجي.
أما الثانية (براءة) رغم تصوره البريء لتلك التي تحمل الطفل على أنها إنسانة إلى أن الإثارة المدهشة تجعلها تكتشف أنها حمارة في النهاية وتلك الأقصوصة فيها من عبق العم" يوسف إدريس" , وتحمل أقصوصة وظيفة لقطة مثيرة ودالة حيث تكشف في إيحاءتها عن أن المساحة كبيرة في بين الواقع وبين ما يقال وترميز الحالة على هذا النحو عمق البعد الدلالي مما جعلها متماسكة فالشاي الساخن بدلاً من أن يجعل صفحات الجريدة تقطر حبراً أسوداً جعلها تقطر دماً وهو يعني أن المواجهة مطلوبة دائماً لأنها تعري الأكاذيب التي تحاصر البشر وتلعب بأحلامهم.
ويقف الإنسان في أقصوصة(البالون) أقام نفسه في حالة مواجهة ذاتية بين المعنى والمبنى حيث يتضاءل الأول ويتضخم الثاني الآخر الذي يعمق حالة التعارض النفسي, فالإحساس بتضاؤل الداخل إنما تعاظم مع تضخم الخارج على فراغ لا يمتلئ إلا بالهواء حتى تحول إلى بالون فلما نظر إلى ذاته صامتاً تهاوى فأخذ يلملم أشلاءه كأنه يعيد ترتيب حقيقته من الداخل وهي الأهم.
تتشابه أقصوصة(سقوط) مع أقصوصة(ارتطام) حيث وقار بطلتها يتماثل مع بطلة هذه الأقصوصة غير أني أتساءل عن تلك الوقورة فقد صعدت إلى المسرح ليهنئ العروسين وأرسلن نظرة أين تكمن الدلالة الفنية بعدما كبرت في عينيه وتسللت إلى قلبه في صعودها للمسرح ثانية ثم تهاويها شيئاً فشيئاً.
في ست مقاطع جاءت أيضاً قصة ( في مدارات الزمن) حيث أقام الكاتب"محمود الديداموني" هذه المدارات وهي أيضاً أقاصيص متعددة الأبعاد ولكنها تتحلق حول رؤية واحدة, ففي المقطع الأول يعود إلى ذكريات الطفولة والفضاء الرحب حيث تحيط الحقول بالدار وتحزم القرية ثلاث ترع كأنها شبه جزيرة. وقد كانت براءة الأطفال تضرب عرض الحائط بكل تحذيرات الأمهات وتخويفهم بالجنية التي تجذب الأولاد الحلوين في مقابل هذا الترويع يأتي الولد الذي يكبرهم يحفزهم على العوم ويشجعهم على المنافسة فتذوب المخاوف وهو ما يعني أن التحذير من الخطأ حينما يصل إلى الترويع فإنه يزرع الخوف والتردد, أما التشجيع على تجاوز الخطأ واستنهاض الإرادة فإنه يدعم الشخصية ويمحو الخوف.
يواجه المقطع الثاني الجمود والرتابة والمألوف الجاهز عن طريق صراع الفطرة التي تعايشت في إطار كل هذا مع التغيير فالأولاد ينتظرون الليل حيث يحكم قبضته السوداء كما يقول الكاتب لكي يمارسوا ألعاب لا تصلح إلا فيه غير أن المصباح الوحيد الذي يتوسط طريق القرية وقلما يضئ إذا ما وقع أحدهم في مأزق بالقرب منه ورأى بعضهم البعض أو يمسك أحدهم بالآخر تكون هناك يد خفية قد أرسلت للمصباح حجراً أطاح به ليعود الظلام ثانية في تكرارية مستمرة.
يستمع الأولاد في المقطع الثالث وبعد أن تعبت أقدامهم ولم يعودوا قادرين على اللعب لقصة الشاطر حسن من الجد وهم يلتفون حوله ومنهم من يغلبه النوم مع أول أحداث القصة فتأتي الأمهات لتأخذهم غير أنه وسماح يستمعان في شغف دائم لكن الجد ترفقاً بهما يتصنع النوم حتى يذهبا لكن أمه وأم سماح لا يأتيان لأنهما تعرفان أنهما لا يذهبان للنوم إلا سيراً على الأقدام وهو ما يعني أن الاستعداد المبكر لتكوين الشخصية مهم وقد بدأت تتكون ملامحه.
ويتوقف المقطع الرابع عند طريقة معالجة شقاء التنشئة بالقهر والقمع بزعم تنشئة الابن على الرجولة في مرحلة الطفولة فالأب يتفق مع صديقه خفير القرية ليقول لابنه الصبي أنه لم يعد الوقت وقت لعب ولابد أن ينضم للعمل مع الأنفار تجنباً لشقاوته حتى أنه لم يعد يضع لحم البط في فمه ولا يستسيغه في بيتهم لأن الخفير صديق والده يأكله عندهم كثيراً ثم يستكمل المقطع الخامس رؤية الرابع فحين أقبل الصباح أخذ الخفير الصبي ودسه بين الأنفار وقد ألهب ظهره بخيرزانه رفيعة وهنا يصوغ الكاتب صورة دالة ومعدة للموقف بما تنطوي عليه من حجم القسوة والقهر يفضي هنا إلى قمع نفس الصبي الذي يقول:"لم أتوقف عن البكاء طيلة اليوم ولم يرتفع ظهري ولم يستوِ عودي" ورغم ذلك لم يفقد الرغبة في سماع قصة الشاطر حسن ولم يتخلف عنها بل إن الأولاد يفرحون بجلسته معهم باعتباره يكبرهم كما يتصورون وقد اشترك هو وسماح مع الجد في البحث عن نهاية.
يقابل ذلك في المقطع السادس أن الفتى يدرك التناقض في شخصية أبيه, فهو تارة يشفق عليه من كثرة القراءة ويرى في عينيه حنواً كبيراً وتارة أخرى تذوب من عينيه هذه الإيحاءات ثم يجيء عام الحزن ليكون إشارة انتقالية لقوة الإرادة وعام الحزن يعني الفقر وسدة النفس عن العمل بعد تدهور الزراعة فتتحول حكاية الجد عن الشاطر حسن في هذه الظروف إلى حكايات تستنهض الإرادة وتقوي العزيمة مستنداً إلى أن تاريخاً من المجد في عمر الشعب لن يهتز من الصعوبات ولن يستسلم للأزمات بل أنه يحول هزيمته إلى نصر .
يستقدمهم الجد لكي يقاوموا دودة القطن حتى لا تأكل المحصول وتأكلهم معه يقول الجد:"جلبت لكم بذرته فزرعته وجنيته تيلة بيضاء وغزلته ونسجته سترت عورته وتجملت به انهضوا قبل أن تنكشف عوراتكم"
هكذا تطوف المقاطع الست في عالم يفيض بالأصالة والإرادة والإصرار على جعل الحياة أكثر قبولاً من ذي قبل فيما بين كل الأجيال وفي هذه القصة تتضح قدرة الكاتب على التوغل في عمق موضوعه وتوظيف المناخ الذي يحتوي هذه المدارات قبل أن تأتي على هذه الصياغة الموحية , وبعد أن أخذت الأحلام الوردية البطل في قصته( ليتك..) وهو نائم إلى أحضان الرياض وقد تهاوت إليه أطياف لم يعرفها سيشعر أنه في الجنة فتتسع ابتسامته حتى اكتسب صوتاً سمع صداه وهو مستغرق لكنه حدث نفسه لأن تمرح في الجنة وتتجاهل هذا الصوت لكنه وصل لحد القهقهة وهنا استحضار لحالة نفسية لم يمهد لها مدخل القصة حيث دخل البطل الفوضوي إلى غرفة نومه مثقلاً بالتعب وقد خلع ملابسه وحذائه الذي رمى كل فردة منه في ناحية ثم استلق فوق سريره, لكنه حينما عاود النوم ليستكمل التحليق تداعت لـه الأشباه تتلكأ أمام عينيه وهي تصارعه وقد حاول مرة بعد مرة مقاومتها لكن الصرخة تختنق حتى تفجرت الدموع على الرغم من أن الموقفين يبدوان على حافة التناقض النفسي في مواجهة الذات إلا أن المدخل لم يقم علاقة فنية معهما.
أما قصة(أتراني أحيا حقاً؟!) فيمثل الحوار فيها عصب الأسلوب لذلك جاءت أطول قصة في المجموعة حيث تدور فكرتها حول شادى الرسام المغيب بيده عن الواقع وموقعه المعهود كما يقول الكاتب ملهى الشرق, فينتقل به من حالة الوصف الواقعي إلى تخيل الحدث فشادى خارج من الملهى في حالة سُكر وغير قادر على السير فصاح سارة فوقفت له فإذا بجواره سيدة يبدو أنها تلك التي كانت في الملهى وضربه جمالها لكن السُكر أفقده القدرة على التمييز وقد أخذته معها إلى بيتها الذي يضم الأثاث الفاخر لكي يكون الخيال أقرب للتصديق.
اكتشفت هذه السيدة أن بإمكانها أن توفر لأختها الصماء والتي لا تستطيع الحركة لحظات من السعادة من خلاله, يجئ السائق بأختها وكأنه كما يقول الكاتب يحمل كيساً من غزل البنات – هي الأخرى آية من آيات الجمال وقد أصرت السيدة التي جاءت به إعطاؤه مبلغ كبيراً من المال طالما أنه سيدخل السعادة على أختها المريضة وبينما هو يرسمها واعداً إياها بأن صورتها ستكون خالدة أبدى الدهر بأنها ستكون أروع وأجمل من الموناليزا, يلتقط أنفاسه بصعوبة بعدما ملأت الشرطة الشقة وهو يغمغم بكلمات التعجب والاستفسار ثم أدرك الأمر في استجواب الشرطة للمصالحة وليس لفتح مجال للعداوة.
هو متهم بالقتل ولا يدري بعدما تحول الضابط المستجوب إلى هاجس – راح يحدث شادي نفسه(فقط أشرب.. كل ما أفعله أنني أشرب وأرسم ,فل أجالس النساء في مخادعهن ولا أقتل, أنا لا أستطيع ذبح دجاجة....... إلخ ) فتكون صورة تلك السيدة التي رسمها دليل براءته فقد ارتكب جريمة قتل وأرادت أن تلصقها بهذا الفنان المخمور ولقد اعترفت بعد ذلك أنها قتلت تلك المرأة اللعوب التي انتهت بعلاقتها بابنها بإقامته بالمستشفى للعلاج من مرض الإيدز.
يطوح شادي بزجاجة الخمر وهو أشد حرصاً على أدوات الرسم يقابله منظر ذلك المخمور الذي استلفت نظره وهو يتمايل ويصدر أصواتاً نشازاً متسائلاً( أتراني أحيا حقاً؟!) وهو ما يعني أن فكرة القصة تقوم على التنبيه وخطورة غياب العقل وآثار ذلك على الفرد والمجتمع بشكل عام.
وتشترك قصة بين (أنياب الضباب) مع قصته(أتراني أحيا حقاً؟!) في توظيف قيمة الكابوسية غير أنها تختلف في أن بطل الأولى فنان مخمور انتهى به الأمر إلى الاتهام في جريمة قتل والثانية فالبراءة فيها هي التي أفضت إلى الأزمة باعتبار أنها موقف قدري وظفه الكاتب كمعادل نفسي.
قدرية الفكرة تبدأ من ضباب ما بعد الفجر حيث تذهب النسوة للعمل فإذا براكب دراجة يحوم حول تلك المرأة التي تأخرت عن زميلاتها لحلب الجاموسة ثم يحاول أن يرغمها على الاستجابة لـه بالكلام الخارج ثم بالضرب الذي وصل إلى محاولة فقأ عينيها ثم نزع قرطها لكنه توقف بعد أن سالت الدماء على كتفيها كأن الدماء هي الانفراجة بعد كل هذه المقاومة وقد قذفته بإناء اللبن.
هذه الكابوسية أفضت إلى حالة انسحاق قهرية( تقوقعت على نفسها منهكة القوى فوق أرض بللتها قطرات الندى والضباب لتصير كقطعة من الطين) ورغم ذلك فالحياة مستمرة وهي تنظر إلى نفسها ببعض ما تبقى من عينيها بالرضا.
أما قصة(حتى الموت) فتتوقف أمام الفكرة التقليدية الفقر في مجابهة الغنى وهنا صراع على نخلة بين دار ذلك الرجل الفقير تربى تحتها واستظل بظلها وحلم في فضائها ودار الغني الوافد الذي اشترى قطعة الأرض المجاورة وبنى عليها منزلاً كبيراً والكاتب " محمود الديداموني" يحيلنا إلى تيمة الصراع بين أرض فلسطين المحتلة والصهيونية العالمية يؤكد الفقير أحقيته في النخلة من خلال ضعفه بينما يؤكد الغني أحقيته فيها من خلال استعلائه وصلفه وهو ما تفعله إسرائيل لكن الأمر أبعد من ذلك بكثير حيث أن طيبة الفقراء أوقعته في المهالك فحينما أشهر ذلك الغني السلاح في وجهه بعد أن عاتبه على ضرب الطفل كان يلعب حول النخلة لكنه بدلاً أن يقبل العتاب صفع الطفل على وجهه قدم الفقير شكواه إلى الشرطة وكأنها هنا – الأمم المتحدة – لكنه فوجئ – الفقير – بعناق طويل بين الغني والضابط ثم دار بينهما حوار كأنه ليس طرفاً فيه قبل أنم يقول الضابط للفقير لا تكن أحمقاً ولا تتعدى على حقه مرة أخرى ولما سأله الفقير:هل تغيرت الحقائق؟! صاح الضابط: أية حقائق يا رجل اذهب وإلا أودعتك السجن, يظل هذا الفقير مستسلماً حتى بعد مقتل ابنه برصاص ذلك الغني فتذكر فقط موقف الشرطة فيغرق في دموعه واضعاً جثة ابنه تحت جذع النخلة متوعداً وهي إشارة لـ"محمد الدرة" لكن سرعان ما جاءت صرخة صوته إيذاناً بقدوم مولود جديد فكانت الابتسامة الحزينة.
وتعالج قصة(شرك السطور) حالة الملل من خلال المنظور العام لفكر الكاتب فذلك الشاب وصل به الأمر لحالة الاختناق وكأنه محاصر بالحياة من حوله ويحب تلك التي جرفه العشق إليها فخرج إلى المقهى فلم يختلف الأمر كثيراً غير أن ما استلفت نظره هو ذلك الشاب المنهمك في قراءة شئ في جريدته وهو يشرب الشاي والبسمة على شفتيه يتبين بعد ذلك أن الصورة لذلك الشاب مع الصفحة التي ننشر إبداعات أدبية وذلك واحد منهم والذي ازداد ثقته أكثر من اللازم وهو ينظر لحركة الناس مشهد الشاب هنا يحيله إلى الوراء حيث رأى حبيبته في أحد أركان المكتبة حيث تبين له أنها عاشقة للكتاب من سؤاله لأمين المكتبة – لا يزال الشاب منغلقاً على نفسه..لا يرى إلا صورته وبعض الكلمات التي تحتها – وبينما هو قد اندمج مع الشباب في حديث الأدب والثقافة يجئ صبي المقهى هل قرأت الجريدة يا بيه؟ حيث كان يريد أن يلف فيها شيئاً مما أثار ضحك الشباب بعد ذلك ويتذكر يوم أن أخبرها بشوقه لطلب يدها وبينما هو في البيت دخل صاحبه فيكتشف أنه أمين المكتبة.
وتبدو في قصة( وما زالت) محاولة الخروج من أسر القهر واضحة لكنها بعد أن فاض كيل المقهور فانفجر.. لقد استسلم ذلك المقهور للنوم فرشته الأرض وغطاؤه السماء ولم ينهض مستجيباً للنداء إلا بعد أن تحول إلى سب وشتم فضاق بذلك وقد نفرت عروقه, يهب واقفاً ممسكاً بحذائه وأخذ يضرب من أيقظه بعنف حتى أفقده الوعي ولما ظن أنه قد مات أخذ يجري في براح الصحراء الممتد على ضوء العربات من ناحية الطريق حتى لم يعد يقوى على الحركة ويبدو من تفكيره في أسرته التي يعولها وتحمل من أجلها وخطواته المتثاقلة وتقطع الصحراء التي علتها الشمس واشتدت مرارتها أنه يعمل لدى صاحب عمل في إحدى دول الخليج, يراجع ذلك الذي أيقظه فيقتنع لأنه أساء معاملته كما لو أنه يعمل عبداً عنده يعود بذاكرته إلى يوم سفره زوجته وأولاده وظهره مركون على حائط غرفة مهجورة فقد صار الرحيل يلح عليه بقوة بعدما شعر أن صاحب العمل يطارده اتجه إلى مكتب سفريات فحجز من بعض المال الذي يلفه حول وسطه وبينما هو بالحافلة التي توقفت بعد فترة يجد أن من يضع يده على كتفه هو صاحب العمل فلم يجد مفراً من الهرولة ناحية الباب في اتجاه الطريق الوعر لكنهم أحاطوه من كل اتجاه فإذا كانت محاولة الخلاص لم تكتمل على هذا النحو فإن مجرد التمسك بها يعني استمرار الرغبة في الانعتاق والتحرر والتمسك بالحياة.
تتناول قصة( مفترق الطرق) عبر مشهدين لحرب أكتوبر من خلال تحفيز الشباب على الالتحاق بالجيش للدفاع عن وطنهم, المشهد الأول بالغ الواقعية إلى حد الصرامة فالقرية تكتسي بالسواد وهو ما يحيل إلى إن ذلك انعكاس لنكسة 67 لقد أصاب الحياة في هذا المناخ البؤس وبلغت بالناس إلى حالة الترهل والاختناق فكل شئ متداخل الحيوان مع الإنسان حتى صار كل شئ اعتيادياً والفقر يزداد لدرجة أن الناس لم يعودوا يخشون اللصوص.
المشهد الثاني: في مقهى هوانم حيث يخرجون من هذا المناخ ولو للحظات مفتعلة حيث ينشغلون في لعب الورق وسماع الراديو وحنوها عليهم كما أنهم عرفوا معها أشكال جديداً غير الأسود يطلب منصور الشاي فترد عليه هوانم خلص والسكر شح, فيعقب: حتى هنا والله عيشة تجنن, بكرة تفرج فتقول هوانم: والفرج لما تحبوا وتقصد التحرك للدفاع عن بلادهم حتى تخرج منا مما هي فيه, وبينما تنصت لبيان الراديو الذي قطع الأغنية الوطنية فوجئوا بصرختها التي أنبأت عن استشهاد أخيها وعدد من زملائه تجمدت ألسنتهم وتذكروا صحبته لهم في الأيام الصعبة ثم سألتهم: إنتم عارفين الدنيا زي إيه؟ فيرد منصور زي غلاية الشاي كل شئ يغلي جواها ثم سألتهم ثانية هل تريدون الشاي؟ فتمنوا لكنها اشترطت عليهم دفع الثمن والمقصود أن يلحقوا بتجنيد أنفسهم وقد تحولت هوانم إلى رمز.
كان منصور قد أخذ بيدها وأجلسها في أعقاب سماعها نبأ استشهاد أخيها فظلت تداوم السؤال عليه خاصة وأنه بعث لها برسالة تقول " أحاول دفع الثمن" , وكان العبور حيث حومت النسور في كل مكان بينما هرعت الثعالب إلى مخابئها, ولأن قلبها كان معلقا بالسؤال عن منصور وهو هنا رمز للانتصار, كانت رسالته المعلقة في قلبه على صدره .. (الآن .. الآن فقط .. يمكنك إعداد الشاي للجميع).
اعتمدت قصته (حلال العقد) بشكل واضح على التناول التقليدي أيضا في أن يكون لها مقدمة وعقدة محورية مباشرة ونهاية, فالشبكة التي اختفت في لحظة إعلان الفرح هي جوهر العقد وحلال العقد هو الراوي ذلك الذي يقوم بتقديم المشروبات إلي المدعوين في مثل هذه المناسبات, حكت لـه والدة العريس عن كفاحها من أجل تربية ابنها بعد طلاقها من زوجها المتصابي حتى أصبح ابنها يعمل في الخطوط الجوية, بعد أن وصلوا إلى منزل العروس وبينما هو يستعد لأداء عمله وقد شرعوا في المراسم إذا بوالد العروس ينادى بإحضار الشبكة فيحدث الارتباط والفوضى ثم يختفي العريس, تتساءل أم العريس وتتصل بالهاتف بحثا لعلى وعسى ولا يزال والد العروس ينادي, يتدخل حلال العقد ذلك الذي يقدم المشروبات والذي يمثل في هذه القصة المنقذ فكانت الفكرة التي انحنى لها والد العروس احتراما للتقاليد الطيبة هي ضرورة حضور والد العريس, فتدب الفوضى أرجاء المكان مرة أخرى بحضور الرجل وزوجته والشابة ورغم ذلك لا تماثل زوجته الأولى هيبة ووقارا فإذا نام العريس يغمى عليها بعد أن نظرت إليه هي والعريس يلومانه على فكرته وكان لا بد من نقل الأم إلى المستشفى وبينما حلال العقد يلملم حاجياته يراهم يبحثون وسطها فإذا بالدنيا تموج أمام عيونهم ويكاد لا يرى إلا أطيافا تتجه نحوه وقد سقط مغشيا عليه بفكرته الشريرة حيث وجد نفسه بين حاجياته المبعثرة في المكان الخالي من البشر.
أما قصة (صفحة) فهي حالة تأمل طرفها الذات نفسها في مطلق حالم يبتعد عن متطلبات الواقع التي يمكن من خلالها أن يتحقق الحلم فيطل القصة ذلك الجالس على شاطئ البحيرة يفترش الرمال في منطقة الشلالات بوادي الريان, يداعب المياه بيد ويبحث بالأخرى في الرمال عن شيء, ينظر حوله فإذا بمساحات ممتدة لأرض قاحلة جرداء ونظر إلى الأفق حول البحيرة فإذا بالأشجار خضراء لكنها غير متناسقة يتحول تأمله إلى تفكير عميق بعد أن انتهى من رسم اللؤلؤة المدفونة في قلب الأصداف وقد تخيل أن ماء النيل يتدفق فوق هذه الأرض لينقذها فتدب فيها الحياة وقد تحولت إلى جنان سندسية لكنه سرعان ما رأى في صفحة الماء الأرض جرداء ترثي نفسها وقد غلبته دموعه قبل أن تصل إلى مسامعه صرخات تناديه وقد أبصر وسط الصرخات المستجيرة لسانا يشبهه كلما وطئت قدماه أرضا اخضرت وصار العمران إليها يزحف من رقعة إلى رقعة, وكلما دقق النظر في صفحة الماء تتضح معالم ذلك الإنسان القادم شيئا فشيئا وهو يؤكد لنفسه أنه قريب الشبه منه غير أن الضفدعة التي سقطت فعكرت الماء أضاعت معها الكلمات لكن لم يعد للجلوس والانتظار مبررا حتى يعود الصفاء لصفحة الماء لأن المطلوب فعله هو النهوض للعمل على إعادة الوجه الأخضر لهذه الأرض والقصة على هذا النحو ترى أن إصلاح الأرض وإمدادها بالماء يمثل المفتاح السحري.
تتوقف قصة (موضع قدم) عبر مشهدين أمام طوفان الزيادة السكانية حيث ترصد زحفها على كل مقومات الحياة في المدينة – القاهرة – والتي يرها الكاتب "محمود الديداموني" بعين المقيم في القرية الذي يسافر إليها لإنهاء المصالح. المشهد الأول يبدو فيه ذلك القروي الذي لا يعرف أرقام العربات المتوجة إلى أم المصريين وتتكرر محاولاته لركوب سيارة تحول إلى أمر مستحيل على الرغم من كثرة هذه العربات فالركاب يتشبثون بأبوابها لذلك رأى أن القاهرة مدينة مسكينة لأنها تعج بكل هذا الصخب والحياة لا تهدأ فيها ليل نهار بينما هو يعيش في قريته هانئا رغم أن وسيلة المواصلات عربة واحدة وتغيب أياما دون أن تكون هناك مشكلة, المهم أنها تنتظم يوم السوق.
يزحف الطوفان إلى الشارع الذي تموج به العربات حتى تحولت الحياة على كل المرافق إلى طوابير مما يزيدها صعوبة ويعوضها للأعطال والارتباكات لأنها تئن بالوفاء باحتياجات البشر فتليفون الشارع – على سبيل المثال – يرفض بقاء العملة والاستجابة للمكالمات كأن الحرارة تسربت من التليفون إليهم فازداد الضغط والزحام فكان لا بد من حل بالتوجه لتليفون المتجر حيث المكالمة بجنيهين استغلالا للأزمة, ينهى مكالمته ويرمي للرجل جنيها قبل أن يذوب وسط الزحام.
ثم جاء المشهد الثاني داخل الأتوبيس الذي عرف أنه يحمل لوحة المكان المتجه إليه وقد نجح بافتعال حالة من الجنون أن يركبه حيث يتقدم أمام الأتوبيس المزدحم سيل من العربات الصغيرة قبل أن يجري أما الأتوبيس فيصرخ السائق لإبعاد هذا المجنون لكن الفكرة كانت أن يقف أمام الأتوبيس ليجبره على الوقوف وقد كان ونجحت فأكملها بالتمتمة بكلمات لا يعرفها الركاب ولا هو يعرفها أيضا فأثار الخوف في نفوس الركاب والكمساري للذي هرب بين الركاب حين مد لـه يده بخمسة قروش مع افتعال حالة هستيرية فجلس على كرسيه مهنئا نفسه والناس يتهامسون خوفا رغم شدة الزحام الذي التقط منه ملمحين الأول لهذا الرجل العجوز ومعه طفلين مريضين ويتحدث عن معاناته مع التأمين الصحي والملمح الثاني لتلك المرأة التي أشاح بوجهه عنها بعد أن غازلته ثم رآها تتصبب عرقا بعد ذلك لأنه أدرك أنها تصيدت عبيطا آخر فأفسدت عليها ما هي فيه.
كان عليه أن يجلس الشيخ على الكرسي قبل أن يلقي بنفسه من العربة وهي سائرة وهو لا يرى غير المرأة الشابة ولا يسمع إلا صوت الشيخ الكبير قبل أن يذوب في الزحام وهذا المشهد في تصوري من أن أهم المشاهد في هذه المجموعة لأنه اقترب من الأزمة بفنية عالية تجاوزت فيه تداعيات الأزمة رؤية ذلك القروي لأنه ذاب فيها.
آخر قصص المجموعة (تحت مظلة الكسوف) تتناول حالة إنسانية تتوحد فيها المشاعر مع عناق الطبيعة على كما رآها الكاتب في ذلك الكسوف حيث حال القمر دون بلوغ أشعة الشمس مداها ليكون اللقاء بين الحبيبين. هي تعلم أنه متزوج غير أنها أحبته لتفرده في الفكر والشخصية, يتبادلان رؤية الكسوف من نظارته السوداء قبل أن يتواصل الحديث حول شجونهما الخاصة فإذا بالوقت يمر إلى منتصف الليل دون أن يشعرا به كما يقول الكاتب .. دهشت .. أخذت تلملم دثار البوح ناهضة بالوقوف, مخلصة أصابعها من بين أصابعه, هامسة له .. وداعاً – لكنها تترك اللقاء بينهما ثانية للطبيعة لأن القمر لن يكون حاجزاً دائما بين الشمس والقمر وربما يكون هناك عناق مع الكسوف القادم وتلك الحالة الإنسانية تقضي إلى أن الدنيا لا تستمر على حالة واحدة.
ننتهي إلى أن الموقف الحاكم لرؤية مجموعة (أتراني أحيا حقاً ..؟!) يقوم على نموذج حائر لرجل يقابله نموذج لامرأة غالبا جميلة ويقع البطل في حبها وأحيانا لا يقع لكنه في كل الأحوال يسعى للإجابة عن أسئلة معلقة من خلالها أو من خلال ما تتجه إليه الأحداث التي يصوغها الكاتب "محمود الديداموني" خاصة إذا كانت المرأة مجرد حالة امتنان جمالية أو كانت زوجة حتى عنوان المجموعة – أتراني أحيا حقاً ...؟! – يترك للمتلقي الإحساس بالإجابة وفقا لما عكسته الرؤية القصصية.